تحدثت في المقالين السابقين عن القضايا التي ينبغي تناولها وفق فهم جديد يتلاءم ومواثيق حقوق الإنسان ودولة القانون ومقاصد الشريعة الإسلامية، فذكرت منها: تصحيح الرؤية إلى المرأة، وتصحيح نظرتنا إلى الآخر، وإلى العالم، وتحصين شبابنا من آفات الفكر المتطرف، وإعادة النظر في مفهوم الجهاد وتدريسه للناشئة، والخروج من التخندق المذهبي إلى الفضاء الإنساني الرحب عبر مفهوم التسامح، وأضيف هنا، قضايا أخرى، منها: 1- تصحيح علاقة الخطاب الديني بمكانة العلم والعقلانية: عندما ضربت كارثة تسونامي جنوب آسيا تداعت المجتمعات الغربية ومنظماتها المدنية والخيرية إلى تقديم يد العون والمساعدة للمنكوبين، في حين شغل جانب من الخطاب الديني عقول الناس، بأن ما حصل لتلك المجتمعات عقوبة إلهية، لانحرافها ومعاصيها. ترى ما ذنب الأطفال والأبرياء؟! يشخص المفكر الإسلامي أحمد كمال أبو المجد الأزمة الحقيقية لخطابنا الديني المعاصر، في أن العقل قد أنزل من عرشه، وأن قضية العلم قد تراجعت مكانتها في عقول كثير من المتدينين. 2- الانشغال بالماضي، ومقاومة الحاضر، والتخويف من المستقبل: ما زال الخطاب الديني أسيراً لمقولات الفقهاء القدامى، يعيد إنتاجها عند أي حدث معاصر، يلتمس في الكتب الفقهية حلولاً لقضايا الحاضر، في غفلة عن السياق الاجتماعي الذي أنتج تلك المقولات، ومازال خطاباً انتقائياً اختزالياً في تناوله للتاريخ الإسلامي، يعمد إلى التاريخ فينتقي لحظات مضيئة، سيرة الخلفاء الأربعة الراشدين وخامسهم عمر بن عبدالعزيز، رضوان الله تعالى عليهم، فيختزل الألف عام في تلك اللحظات الاستثنائية، ويجعلها قاعدة مع أنها تشكل استثناء في مجرى التاريخ العام، في الوقت الذي يقف في مواجهة المتغيرات السريعة وعلوم استشراف المستقبل، موقف الوجل المتخوف والمحذر، ظناً بأن الآتي هو الأسوأ، وأنه لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه. على الخطاب الجديد أن يتجاوز هذه النزعة التيئيسية البائسة، فالخيرية ليست محصورة بزمن معين ولا مكان معين، فليس كل ما مضى خيراً، وليس كل ما يأتي شراً، وعلى الأعناق الملتوية إلى الوراء أن تعتدل وتنظر إلى الأمام وإلى المستقبل، بثقة وأمل في غد أفضل، ومع أننا في منطقة الخليج أكبر منطقة عربية معولمة، تموج بتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية متسارعة، وتقوم دولنا بجهود في مجالات التنمية والإنتاج والعمل، لا نجد للخطاب الديني أي إسهام فاعل في حركة المجتمع الخليجي، بل نجده عاملا معوقاً، في حالات كثيرة، عندما يقف ضد مشاركة المرأة في الحياة العامة. 3- غياب فقه (مقاصد الشريعة) عن الخطاب الديني السائد: الملاحظة البارزة على الخطاب الدعوي المعاصر، غياب فقه إسلامي جليل، هو فقه المقاصد، وهو ذلك الفقه الذي يبحث عن الغايات الإلهية والحكم العليا، وراء التشريع الإسلامي، مثل: مبادئ العدل، وكرامة الإنسان، والإرادة الحرة، والتعاون الاجتماعي، والتيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، والعدالة الاجتماعية، والأخلاق، وحقوق الإنسان وحرياته. وفِي كتيب صغير، لكنه نفيس، عن المقاصد الشرعية، يذهب الدكتور جاسر عودة، إلى أن المنهج المقاصدي، يحل كثيرا من الإشكالات والمنازعات الحاصلة بين المذاهب الإسلامية، وفِي علاقة المسلمين بغيرهم، حيث يؤسس أرضية مشتركة بين المسلمين، كما يمكن لفقه المقاصد أن يعزز الحوار بين الأديان، لذلك يرى المؤلف: أن فقه المقاصد يجب أن يأخذ مكانه في اهتمام كل متخصصي الشريعة، وواضعي السياسات المختلفة، على أساس أن صلاحية أي اجتهاد معاصر، هي بقدر تحقيقه مقاصد الشريعة. 4- أخيراً، فإن المجال الذي ينبغي للخطاب الجديد أن ينشط فيه هو تقديم صورة حضارية جديدة عن الإسلام، فإن صورة الإسلام في العالم صورة سلبية مقترنة بالعنف، والعداء لمظاهر الحداثة والعقلانية، وإقصاء المرأة، والتضييق على الأقليات، ولذلك فإن العالم يتوجس من كل ما هو إسلامي أو مسلم، وذلك من نتائج عجز وفشل الخطاب الدعوي، الذي هاجر إلى الغرب وحمل أمراض المجتمعات الإسلامية معه، فشقي به المسلمون هناك، وزادهم رهقاً، مع أن قرآننا نور وهداية ورسولنا، عليه الصلاة والسلام رحمة وبشارة. *كاتب قطري
مشاركة :