التراث الحاكم إن الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني بما يتمثل به من النقاط الثلاثة الآتية: "خطاب دعوي منبري، أو تعليم ديني، أو فتاوى ودراسات بحثية"، منطلقها الأساس أن الدين يؤدي الدور الأبرز في تشكيل وجدان المسلم وصياغة عقله وتوجيه سلوكياته وتكوين تصوراته ومواقفه تجاه ذاته وتجاه أفراد مجتمعه، مواطنين وغير مواطنين، مسلمين وغير مسلمين، وتجاه مجتمعه ودولته ونظامه السياسي الحاكم لمجتمعه، وكذلك تجاه الآخر الغربي الحضاري. الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، كما أسلفت في المقال السابق، حاجة داخلية، وهمٌّ خليجي وعربي قبل أن يكون مطلباً أو تشجيعاً خارجياً، ولذلك على دعاة الإصلاح والتجديد عدم الالتفات إلى تشكيك أصحاب الظنون والشائعات الذين يروّجون بأن الدعوة للتجديد مؤامرة أميركية لإلغاء موضوع الجهاد، وإلغاء آيات القتال، تحت شعار تجديد الخطاب الديني. تحدثت فيما سبق عن معوقات تجديد الخطاب وذكرت: أولاً: الممانعة الفكرية والسياسية التي حمل لواءها طائفة من الكتاب الإسلاميين الحركيين والسلفيين، على تناقض بينهما، وأضيف هنا مانعاً آخر هو: ثانياً: الغلو بالتعلق بالتراث الماضي والتعصب الشديد للأئمة والمذاهب: فالمسلمون عامة والعرب بالذات من بين سائر الأمم شديدو التعلق بالماضي الذي صور ماضياً مجيداً زاهراً حافلا بالمآثر والأمجاد والبطولات والانتصارات، وما زال القطاع الأعظم في مجتمعاتنا يحيا فيه بعقله ووجدانه، ويسعى فقهاؤنا وأهل الفتوى والباحثون إلى تلمس الحلول منه، باعتباره الإطار المرجعي لكل قضاياه، وأقدم تنظيماتنا الدينية السياسية، استنزف طاقاته على مدى 80 عاماً في إقناع الجماهير بإحياء نظام الخلافة الإسلامية، ظناً أنه الحل السحري لأوجاع وآلام ونكبات الأمة العربية والإسلامية، والمنطلق لنهضتها وتقدمها وقيادتها للعالم. وفي حين تسعى التنظيمات السياسية الدينية إلى استعادة الخلافة بالوسائل السلمية فإن التنظيمات المسماة جهادية زوراً تزرع في نفوس شبابنا حب الموت وكراهية الحياة، وتهلك الحرث والنسل، من أجل إقامة دولة الخلافة، وما دولة الخلافة؟! دولة يهيمن فيها الخليفة على كل السلطات، ويقتل إرادة الأمة! العقلية العربية عامة لا العقلية الدينية فحسب أسيرة الماضي المجيد، تنوء بعبئه ولا تستطيع التحرر من قبضته، مازال التراث يحكم عقولنا، ولا يزال فقهاؤنا الأجلاء الذين اجتهدوا لمجتمعاتهم يصوغون تصوراتنا، هذا التبجيل للماضي ورموزه وشخصياته ولممثليه وحراسه من الرموز الدينية المعاصرة، والذي قد يصل إلى حد التقديس لدى البعض، لم يأتِ من فراغ، إنما عبر عمليات تعبئة وشحن للعقول والنفوس طويلة ومستمرة، ساهم فيها الخطاب الديني التقليدي عبر المنابر والمناهج والفتاوى والكتب والمؤلفات الدينية بنصيب وافر، وحتى السلفية المحاربة للغلو في الأشخاص لم تسلم من غلو بعض أتباعها في أئمة أعلام. الموقف من التراث: في مقابل هذه الرؤية التبجيلية التقديسية للتراث هناك رؤية أخرى ازدرائية تحقيرية للتراث، تتبنى القطيعة المعرفية الكاملة له، وترى أنه لا يمكن تجديد الخطاب الديني والثقافي العام إلا بوضع التراث خلف ظهورنا، وتجاوزه كما فعلت أمم عديدة، وهذا لا سبيل إليه ولا أراه حلاً واقعياً، وليس عدلاً هدم وإهدار تراث أمة بأسرها، لمجرد وجود عناصر تعصبية معوقة، بل المطلوب من الدعاة المصلحين، وكما قال الأئمة الكبار، القيام بعمليات الغربلة والفرز والتنقية لهذا التراث الضخم الممتد، كما قام بها الأئمة الأعلام: محمد عبده، وشلتوت، والغزالي وغيرهم في الجانب السني، وأئمة آخرون كثيرون في الجانب الشيعي والأباضي والزيدي، فما ورثناه من الأسلاف فيه الإيجابي المعين على النهضة والتقدم، وفيه السلبي المعوق المحكوم بروح عصره، والذي ينبغي تجاوزه، وهذا سهل ومقدور عليه، إذا اتخذنا القرآن الكريم وما صح من السنة الشريفة معياراً حاكماً لتنقية التراث، وإذا استرشدنا بفقه المقاصد، وفقه المصلحة دليلاً مرجحا، وإذا راعينا متغيرات العصر عاملاً حاضراً فيما نختار. ختاماً: رحم المولى تعالى المفكر الإسلامي جمال البنا الذي أفنى عمره مشتغلاً على تنقية التراث الإسلامي، وفق منهجية علمية، ترى الإنسان مخلوقاً مكرماً، وأن النص الديني جاء من أجله، فإذا تعارض مع المصلحة أولنا النص، ورحل رحمه المولى تعالى، وخلف علماً غزيراً نافعاً، نوراً للعقل وهادياً للوجدان. * كاتب قطري
مشاركة :