قصص كثيرة لا ترى النور... والمعوقات مادية وقانونية

  • 3/5/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يعود بنا فيلم «ذا بوست» إلى الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي. ومن صالة تحرير صحيفة الـ«واشنطن بوست» يحيي توم هانكس وميريل ستريب، أحداث بطولة الثنائي بين برادلي وكاثرين غراهام. مشروع استقصائي ضخم دفع بالصحافيين إلى خوض معركة غير مسبوقة بين الحكومة والسلطة الرابعة لنشر «أوراق البنتاغون» التي كشفت تورط واشنطن في حرب فيتنام، إلى العالم. شاهد هذا العمل المميز العديد من الزملاء في الأوساط الصحافية والإعلامية. وترك مرارة في فمهم. تحسروا على وضع الصحافة الاستقصائية اليوم، وتمنوا لو أنّهم عايشوا تلك الحقبة الذهبية. ماريون جونز، الصحافي البريطاني يختلف زملاء المهنة في الرأي، قائلاً: «قد يعتقد من شاهد (ذا بوست)، أنّ ذلك العصر كان العصر الذهبي للصحافة، إنّما ليس هناك من عصر ذهبي لهذه المهنة ولا لحظة بطولية واحدة». ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «حتى في تلك الفترة، كان النشر متفاوتا ما بين التحقيقات العظيمة، ومئات الأخبار التي لا داعي لها». إذن، وفق جونز، فإن الصحافة الاستقصائية لم تمت. بل يرى أيضاً أنّ بعض جوانبها تحسّن اليوم، لسهولة الحصول على المعلومات في عصر الإنترنت. وفي ذلك يقول: «في يومنا هذا، لو كان لدى صحافي شاب قصة جديرة بالنشر، فلدى أبرز المؤسسات الإعلامية القابلية للاستماع إليه. الأمر الذي لم يتسنّ لي عندما كنت صحافياً شابا مهما كانت قصصي مهمة». جونز صحافي استقصائي متمرّس. تدرج مهنيا في «بي بي سي» منذ تسعينات القرن الماضي. كانت الهيئة شاهدة على نجاحات تحقيقاته الاستقصائية، وإخفاقاته القانونية؛ لكنه قرّر قبل عامين أن ينهي رحلته معها للالتحاق بمكتب الصحافة الاستقصائية في العاصمة البريطانية. التقيته في مقرها اللندني الذي تأسس عام 2010، من قبل نخبة من صحافيي أهم المطبوعات البريطانية. مقابلة قصيرة لضيق وقته وكثرة مهامه، والسّبب صغر كادره (15 صحافيا تقريبا). لكنّني استرقت من خلالها نظرة إلى داخل العمل الاستقصائي «الذهبي». يرى جونز أنّ عمله مع «بي بي سي» كان مختلفا عن تجربته منذ التحاقه بمكتب الصحافة الاستقصائية. ويقول: «الأمر الرائع في انضمامك إلى مؤسسة إعلامية بضخامة الـ(بي بي سي) هو أنّك تعمل إلى جانب مئات الناس الذين بإمكانك التعاون معهم واستشارتهم وإجراء (عصف ذهني) لبلورة الأفكار والمبادرات والمشاريع». ويضيف: «لكن الأمر السيئ في (بي بي سي) هو أنّ هناك طبقات عديدة من الإدارة والتراتبية التي تقيّد الموظفين، فعلى سبيل المثال أثناء عملي ضمن برنامج (بانوراما) كان هنالك 3 مديرين أعلى رتبة من رئيس تحرير البرنامج، وكانوا يتمتّعون بصلاحية تامة لمراجعة نصوص الحلقات والتعليق عليها. الأمر الذي يعتبر معطلا للعمل». ويستطرد شارحا: «أمّا هنا في هذا المكتب، فلدينا مدير ومجلس إدارة يجتمع نحو كل 6 أسابيع ما يسهل العمل. لكن وللأسف ليست لدينا الموارد التي تمتلكها الـ(بي بي سي)، ولكنّنا ننمو بكادرنا ومواردنا كلما زاد التمويل». التمويل. مشكلة طالت الصحافة ككل، لكنّ أكبر ضحاياها كانت التحقيقات الاستقصائية. وعن ذلك يقول الصحافي البريطاني: «هذا النوع من الصحافة مكلف، فالعديد من القصص لا ترى النور بعد العمل عليها لأسباب متعددة». ويضيف: «قد يواجه الصحافي مشاكل قانونية أو يصطدم بحائط ويصبح غير قادر على تحصيل الحقائق لإثبات فرضيته، أو قد توقفه المطبوعة أو الشركة الإعلامية التي يعمل لديها لصعوبة القصة وتكلفتها العالية». لهذا السبب، خفضت المنابر الإعلامية والصحف من طواقم الصحافة الاستقصائية بما فيها الـ«بي بي سي»، وفق جونز. تأسس المكتب في محاولة لإعادة إحياء الصحافة المهنية الحرّة. ويؤكد جونز أنّه من خلال المشاريع المتنوعة التي يعمل عليها المكتب، يهدف إلى كشف سقطات الأنظمة والشركات العالمية. وقد تُعدّ «أوراق حرب العراق» من أبرز إنجازاته التي استطاع جمعها ونشرها فترة تعاونه مع ويكيليكس. وتعتبر أكبر تسريبات لوثائق عسكرية في التاريخ (نحو 400 ألف تقرير)، كشفت عن انتهاكات الجيش الأميركي للمساجين، فيما شملت المشاريع الأخرى تحقيقات في ضربات الطائرات دون طيار (درونز) وحصيلة للضحايا، إلى جانب تحقيق آخر حول الانتهاكات في أفغانستان. ويقول: «استطاعت تحقيقاتنا أن تحتل الصفحات الأولى في الجرائد البريطانية، وقد تصدّرت قصصنا هذه الصفحات ثلاث مرات خلال الأشهر الثلاث الماضية». ويكشف جونز أنّ المكتب يتعاون مع «غوغل» حالياً، في مبادرة لدعم الصحافيين المحليين عن طريق نشر بيانات ليستفيدوا منها. وعن تعاون المكتب مع المنابر الإعلامية يقول: «في البدايات كنا نتواصل لنشر تحقيقاتنا في الصحف، لكنّنا الآن في طور التوسع ولدينا علاقات جيدة مع قنوات بريطانية، ونعمل على نحو خمسة مشاريع مرئية، منها فيلم وثائقي». ويضيف: «الصحافة المكتوبة كما عهدناها، لم تعد موجودة في يومنا هذا، وقد يحتل سبق صحافي ما، حيّزاً على الصفحة الأولى، لكن معظم من سيقرأه سيقوم بذلك من خلال الموقع الإلكتروني». ويردف موضحاً: «من فوائد نشر الخبر على الصفحة الأولى، أنّ قنوات مثل (بي بي سي) تغرّد هذه الصفحات لأبرز المطبوعات فتصل إلى ملايين الناس». ويؤكد أنّ «الإعلام الاستقصائي يشهد تغيرات في طريقة تقديمه للناس، ويجب أن يضمّ المحتوى مقاطع فيديو من قلب الحدث مثلا أو تصويرا خفيا مع النص والصور». لا تزال التحقيقات الصحافية تعتمد على معلومات من المبلغين (whistle blowers). ويقول جونز: «فادنا العديد من المبلغين في خوض تحقيقات مهمة آخرها كان فضيحة استثمارية، لكن الأمر الأهم يبقى حماية هوية المبلغين والحفاظ على ثقتهم». ولكن ماذا عن المعلومات الكاذبة؟ يرد جونز: «للمكتب إجراءات شديدة لتدقيق الحقائق والمعلومات، إذ تمر التحقيقات التي يُمل عليها، في أصعب آلية للتدقيق، تفاديا لنشر الأكاذيب». ويضيف: «عملت في (بي بي سي) في برنامج نيوز نايت وبانوراما كما عملت مع العديد من الصحف العالمية، إلا أن عملية فحص الحقائق في مكتبنا هي الأكثر اجتهادا من أي مكان آخر». يطمح جونز خلال السنوات المقبلة إلى أن يشهد المكتب نموا وتطويرا، وأن يتوسع كادره، ولكن ليس بعدد هائل، لكي يستطيع الإبقاء على آلية عمله الحالية. ويقول: «لا أعتقد أنّنا سنصبح اسماً مألوفاً للناس، لكنّنا وصلنا إلى مرحلة أصبحنا معروفين في الأوساط الصحافية ونريد أن يسمع صوتنا صناع القرار». لمكتب الصحافة الاستقصائية اللندني استعداد للتعاون مع الجميع، ومحتواه متوفر لكل من يريد نشره، حسب جونز. ولكن يستطرد قائلاً: «يهمنا معرفة من يموّل المنابر الإعلامية». ويختتم بقوله: «أهم قواعدنا أنّنا لا نتلّقى الدّعم المالي من أي جهة حكومية، لأن ذلك قد يضر بمهنيتنا ويؤثر على محتوانا».

مشاركة :