بدون أدنى شك أن هناك تراجعا كبيرا حدث، في دور النخب الثقافية من كتاب رأي وناشطين اجتماعيين و سياسيين مستقلين بدرجة كبيرة، لصالح إعادة إنتاج دور وعي زائف لدى المجتمع، عناوينه ومضامينه أخذت تتبلور منذ بداية الإنقسام، لصالح القوى المهيمنة على الساحة السياسية و المجتمعية، تراجع دور السلطة الفلسطينية وغياب مؤسساتها، جعلت من دور المثقف مضاعفا لمواجهة التسلط و التخلف والمواجهة الثقافية، إلى جانب أن غياب الدولة و مؤسساتها فتح المجال للبحث عن حماية فردية وجماعية من نوع مختلف، وهي العائلة، وبمعنى آخر استحضار دور الوعي الريفي في الحياة العامة. رافق ذلك أيضا تراجع دور المثقف بمفهومه الشامل، وبروز جيل من “المثقفين” الجدد أنتجتهم حالة كثرت فيها تفاصيل الإنقسام السياسي ومشاكله، وهم إنعكاس لواقع مشوه سواء في الحقل السياسي أو الاجتماعي، غياب الوعي في الحالة السياسية هو أحد تجليات تراجع دور المثقف سواء المشتغل بالحقل السياسي أو الثقافي، يبدو في هذا المجال أن توزع وتشتت الفلسطينيين بين مجتمعات مختلفة بفعل النكبة و الاستعمار الكولنيالي الذي بعثر وشتت الفلسطينيين لعب دورا في ذلك، وبالنهاية فالمثقف هو نتاج بيئته الإجتماعية ولكنه يتميز عنها بقدرته على تحسس الإشكاليات السياسية و الإجتماعية والإقتصادية بشكل نقدي، ويحول ذلك إلى منتج ثقافي وقد يصل إلى الإبداع في حالات نادرة، وهنا أنا أتحدث عن مثقف “غرامشي”، لاحظوا كيف تراجع دور المثقف الفلسطيني الذي طحنته السياسة بحيث أصبح عبدا لها، مثقف الحزب أو الفصيل، ومثقف السلطة الذي أصبح يلهث وراء مزاياها. وليس غريبا عندما وضع المفكر الفلسطيني الراحل إدوار سعيد شرطا للمثقف العضوي المتفاعل مع هموم شعبه أن يكون مستقلا، ذلك لأن المعرفة بحد ذاتها سلطة بحسب بيكون ولكن بالضرورة لا لوجود سلطة لا تعترف ولا ترتبط بنشأة حقل المعرفة بحسب فوكو، لذلك على المثقف الذي يريد تحرير ذاته من أسرها، أن يمارس دوره التنويري بحرية في نقده المركب، نقد الموروث القديم وتفكيكه ونقد الجديد الحالي أي الواقع المعيشي و تحليله، بمعنى آخر نقد الفكر السائد ونقد المجتمع بكل مكوناته ونقد السلطة. في الخصوصية الفلسطينية كانت ولازالت الثقافة الوطنية هي بمثابة الجبهة الأمامية في مواجهة الإستعمار الكولنيالي الذي استوطن في أرض فلسطين وطرد أهلها، في محاولات طمس وتبديد الهوية الفلسطينية، برزت الثقافة في أبهى تجلياتها فخرج لدينا جيل من املبدعين في مختلف المجالات، بحثوا وبشكل دائم للإجابة على أسئلة الحياة الصعبة والمريرة. في حاضرنا اختلطت هموم المثقف بقدرته على تأمين حاجاته الأساسية، الذي في الغالب يدفع ثمن مواقفه إزاء مختلف القضايا، وتعرض لعملية إبتزاز سواء في تأمين لقمة عيشه أو بالقدرة على التعبير عن أفكاره بكل حرية، حسابات السياسة وخاصة الخصام السياسي الحاصل في الساحة الفلسطينية عقد المشهد، وجعل من مهمة المثقف المشتغل بالثقافة أو السياسة أن يتحرك في حقل من الألغام و الأشواك، وأن يواجه ثقافة من نوع مختلف وهي استحضار الدين إلى الحق السياسي والإجتماعي بشكل فظ وقاسي في محاولة لفرض رؤية إجتماعية شديدة القساوة والتعقيد على الناس و على المثقف بدرجة أساسية. في البنية السياسية الفلسطينية الرسمية سواء في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وخاصة مجلسيها الوطني والمركزي لوحظ غياب واضح للفاعلين الحقيقيين في المجتمع الفلسطيني سواء للكتاب أو للناشطين الاجتماعيين، لاحظ اجتماع المركزي، غياب واضح لجيل أو أكثر من الفاعلين الذين برزوا سواء في فضح ممارسات العدو ونقل الصورة للعالم، أو الذين واجهوا الإنقسام الفلسطيني وحذروا من مخاطرة سواء بالكتابة أو غيرها، هذا الجيل تم تغييبه عن قصد، انظر لنشاطات الجاليات الفلسطينية في العالم ودورها في حملات المقاطعة متعددة الأشكال للعدو الإسرائيلي، ودور المخيمات الفلسطينية في الشتات سوريا و لبنان ماذا عن حضور قضيتهم في محاولة الحفاظ على و جودهم و حياتهم؟.. في قطاع غزة جرى في الفترة الأخيرة تشكيل و إنشاء الكثير من المجموعات سواء شبابية او أطر سياسية للبحث عن أجوبة للواقع، ولأخذ دور محدد في المعادلة السياسية، ولكن كل الجهود لم تحقق أو تصل إلى مستوى جيد من التأثير و المشاركة السياسية، محاولات عديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، تجمعات ولقاءات ولكن الواقع المر شتتهم وأضعفهم. ولكن يبقى للمثقف سواء الذي ينتج أدبا أو فكرا تنويريا، على قلتهم وندرتهم، أو كتاب المقالات السياسية أيضا على ندرتهم “لأن ليس كل من كتب مقالا في السياسة هو كاتب بحق و الأمثلة عديدة ومتنوعة”.. يبقى لهذا المثقف دور في البحث عن الحقيقة من خلال الإجابة على الأسئلة التي يطرحها الواقع، منحازا لهموم الناس وللوطن، كما تبقى الحرية الثقافية التي لا يحدها حد هي التي نعول عليها وينتظرها شعبنا. *كاتب مقيم في فلسطين
مشاركة :