معرفتي برفض جميلة بوحيرد الحديث عن الثورة الجزائرية منعتني أن أتحايل، أو أسعى إلى استفـزازها بشكل غير مباشر يبدو عفويا، بسؤال يحيرني عن المصائر. مصائر ثورة أصبحت دولة، وثوار فاتهم أن يكونوا شهداء وآلت إليهم السلطة، وتفرقت بهم السبل وتباينت النهايات، بين كرسي الحكم والمنفى والمعتقل والحكم بالإعدام. سؤالي بالطبع يتجاوز الجزائر صاحبة أعظم ثورة قدمت تضحيات في القرن العشرين، ويصل هنا والآن إلى محطة ثورة مصر في 25 يناير من العام 2011، بعد فشلها المؤقت وتبدد الأمل القريب في استعادة روحها الهاربة تحت ركام من الإحباط وخيبات الأمل، واتهامها بكل الموبقات. احترمتُ الصمت الذي التزمت به جميلة بوحيرد منذ 56 عاما، وسألتها سؤالا واحدا لم أنتظر عنه إجابة؛ فهو ليس سؤالا، وإنما هو ملاحظة تحتاج إلى تفسير، والغريب أنني كنت أعرف التفسير، وهي بخجل لم تذكره. جميلة بوحيرد حلت بمصر، ضيفة فوق العـادة في أي مكان طـوال أسبوعين، بمناسبة إهداء مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة دورته الثانية إليها. بعد تكريمها في حفل افتتاح المهرجان، مساء 20 فبراير 2018، قالت كلاما طيبا عن نضال النساء، ولم تنس ذكر “الرجل الكريم” جمال عبدالناصر، وأنهت كلمتها قائلة “تحيا مصر وتحيا الجزائر”. الحفاوة الرسمية والأهلية والشعبية الجماهيرية بجميلة بوحيرد اختصرت الزمن، ووضعتنا في قلب الحالة الجزائرية، أعادتنا إلى لحظة تأكد فيها للشعوب أن هناك أملا في الحرية إذا امتلكت الإرادة، وتحررت الجزائر، وأطلق سراح جميلة التي كانت قد استقبلت الحكم بإعدامها عام 1957 بشجاعة نادرة. وبعد حملة عالمية للتنديد بالاستعمار الفرنسي وانتهاكاته في الجزائر، خفف حكم الإعدام إلى السجن مدى الحياة. اقترن استقلال الجزائر عام 1962 بتحرر جميلة التي صارت أيقونة للثورة ورمزا للنضال النبيل. خرجت جميلة إلى النور، وفوجئت بالعشرات من المقالات والقصائد والمسرحيات التي تتغنى ببطولتها، مضافا إليها فيلم “جميلة” الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1958. لم تسترح جميلة لفيلم “جميلة”؛ لأن ثورة بلادها أكبر وأعمق وأشمل من تلخيصها في بطولة فردية، وهي ترفض الادعاء، وتكرر أنها لم تقم إلا بواجب كان عليها أن تؤديه. ولم تقل إن الفيلم أقل من الثورة، وإنه يؤكد علّة مصرية مزمنة تختزل الكل في واحد، وتنتظر المخلص، البطل المتفرد، وربما تصطنع بطلا من دون سابق بطولة أو استحقاق. هذا ما لم تقله جميلة ولكنه الفرق بين فيلمي “جميلة” لشاهين و”معركة الجزائر” للإيطالي جيلو بونتيكورفو. نجت جميلة من غواية المناصب، ونفرت من أي سلطة، واختارت أن تكون مع الناس، فجسدت معاني الصدق والتجرد والاتساق مع الذات. صفات منحتها بهاء لا يقاوم، وحجزت لها مكانا في كل قلب لم تثمر ثورة 25 يناير 2011 جميلا أو جميلة. الجميلات والجميلون حصـد أرواحهم رصاص الشرطة فنالوا الشهادة ومحطة في مترو الأنفاق، ولم يروا نهاية الثورة التي أجهضها استعجال الحصاد، والرغبة في قطف الثمار قبل النضج، والإسراع إلى اغتنام فرص الأضواء والأسفار ونيل الألقاب “الثورية”، والهوس بمناصب تبدأ من مقعد المذيع وتنتهي بمقعد الرئيس. كل يدعي وصلا بثورة وأنه تنبأ بها ودعا إليها وكتب بياناتها، ونادته الجماهير في ميدان التحرير للهتاف بشعاراتها؛ لكي تردد وراءه. لا تجتمع في إنسان سويّ ثورة وحرص؛ فالثائر زاهد تغني أحواله عن أقواله، يترفع عن التعلق بشيء، مثل الصوفي الصادق الذي وصفه أبوحمزة البغدادي بأنه “يفتقر بعد الغنى.. ويخفى بعد الشهرة”، أما الثائر المدعي فيحق عليه وصف أبي القاسم القشيري للصوفي الكاذب بأنه “يستغني بعد الفقر، ويعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء”. فما الذي فعلته جميلة بوحيرد؟ أظنها حالة نادرة يجب أن تبحث وأن تدرَّس. ففي تلك السن الصغيرة تفاجأ الفتاة باهتمام العالم بقضيتها، وتدعى إلى لقاء الزعماء، وتمنحها سوريا والعراق جنسيتها، وتصير ملهمة، وعلما على دولة وثورة وقضية، ولكنها تنكر ذاتها بدرجة تقترب من روح أبطال حال الموت دون إدلائهم بشهادة عما استشهدوا من أجله، وترفض الحديث عن دورها في الثورة، وتدير ظهرها للمغريات، استنادا إلى نبل وزهد وصلابة لا أظن أحدا ينازعها فيها إلا تشي جيفارا. وظلت جميلة بوحيرد ترفض التكريم خجلا من الشهداء، وتغبط رفيقتها الشهيدة حسيبة بوعلي التي “ماتت شهيدة يا سعدها”. فهل جانبها الصواب بصمتها الطويل؟ في عام 1962 بدأت جميلة بوحيرد من القاهرة جولة في عواصم عربية وأجنبية، وفي الصين رفضت الرد على سؤال يتعلق بالثورة. وفي اليوم التالي قابلها الزعيم ماو تسي تونج، وكان قد قرأ في الصحف تحفظها في الرد على الصحافيين في مؤتمر حاشد، وقال لها “أنا المناضل صاحب المسيرة الطويلة، نصيحتي لك لو أنك تسكتين الآن عن الحديث عن الثورة، سيأتي غيرك يتكلم عنها كما يريد”. وفي كتاب “جميلة بوحيرد بطلة الحرية.. جميلة التي عرفت” الذي نشره مهرجان أسوان لأفلام المرأة تقول جميلة لمؤلفة الكتاب السورية الدكتورة أميمة أحمد “كان علي أن أتكلم وفق نصيحة ماو تسي تونج، لأني لو تكلمت ما تجد أناسا لم يشاركوا بالثورة ويقولون بعد 60 سنة إنهم مجاهدون وحكم عليهم بالإعدام وهم كانوا خارج الجزائر يتابعون دراستهم”. وحددت جميلة ست فتيات فقط حكم عليهن الاستعمار الفرنسي بالإعدام: بايا حسين (16 سنة)، وجوهر أقرور (17 سنة)، وجاكلين قروج (يهودية فرنسية يسارية من عائلة برجوازية كبيرة انضمت للثورة الجزائرية)، وزهية خلف الله، وجميلة بوعزة، وجميلة بوحيرد. ولم تنفذ هذه الأحكام، وخرجت المناضلات عند استقلال البلاد. نجت جميلة من غواية المناصب، ونفرت من أي سلطة، واختارت أن تكون مع الناس، فجسدت معاني الصدق والتجرد والاتساق مع الذات. صفات منحتها بهاء لا يقاوم، وحجزت لها مكانا في كل قلب، وضمنت لها جمالا دائما. وقد رأيتها، في أسوان أينما حلت، نجمة ذات حضور طاغ، وأيا كان الزحام فهي تجذب الانتباه. وقلت لها إنني سافرت إلى الجزائر أكثر من مرة، وأعرف جمال الجزائريات، ولكنك جميلة الجميلات، وسألتها: من أين لك كل هذا السحر؟ أجابت بابتسامة خجلى: “أنا جميلة؟”، وقلت: حتى اسمك “جميلة”. وضحكنا.
مشاركة :