مارلين سلوم لا نستخدم تعبيراً مجازياً إن قلنا إن بعض المخرجين والمؤلفين يمشون فوق الأشواك حين يقدمون أعمالاً شديدة الواقعية والحساسية في آن، وقعها ثقيل على المجتمع، تلمس الجراح بل تعيد فتحها لتنزف من جديد علّها تشفى وتطيب، فتصفى النفوس. هؤلاء الذين يحيكون أفلامهم بخيوط الألم وصيحات الضمير ونظرات الحقيقة الثاقبة، يعرفون جيداً أنهم يصنعون فرقاً كبيراً في السينما، وأنهم يجردوننا من الخيال لنقف أمام مرآة صافية، وبكل جرأة. هؤلاء يعرفون جيداً أنهم يلعبون مع الخطر، يتحدون كل رقابة، وكل جمهور، من أجل تقديم صناعة سينمائية بكل معنى الكلمة. من «هؤلاء»، زياد دويري الذي شاهدنا فيلمه «قضية رقم 23» في صالات الإمارات، وفاز بالوصول إلى المنافسة الأخيرة على الأوسكار وإن لم يفز بالجائزة. «قضية رقم 23» فيلم تحسبه عادياً، فإذا به يفاجئك على طول خط المشاهدة. بسيط، سهل بالنسبة للجمهور، وصعب طريقه وعر بالنسبة لزياد دويري المخرج اللبناني الفرنسي، ولجويل توما التي شاركته في الكتابة. لا يشبه غيره من الأفلام اللبنانية، ولا الأفلام العربية. يحكي قصة من قصص الحرب في لبنان، بأسلوب مختلف تماماً، فلا سرد ولا غموض، بل سلاسة ووضوح ومباشرة في قول الأشياء وتسميتها بأسمائها بلا لف ولا دوران. ولعلنا لأول مرة نشاهد عملاً سينمائياً لا يجامل أحد الأطراف على حساب الآخرين، ولا يفسر الأحداث والصراعات وفق ميوله وأهوائه، كما لا يجامل الرقابة ولا الزعماء ولا المسؤولين ولا حتى الجمهور، ليكسب ودّهم. دويري يبدو في «قضية رقم 23» حاسماً، يعرف قضيته جيداً، ويتجه مباشرة نحو الهدف. اختار أبطاله بعناية، فبدا كل منهم في قمة أدائه. كل منهم يستحق جائزة التميز، لاسيما عادل كرم الذي أثبت أنه ممثل من الطراز الأول، وكأننا نكتشفه لأول مرة على الشاشة. الفلسطيني كامل الباشا الرائع بأدائه الصامت، وغضبه البارد، وملامحه ونظراته الناطقة في كل وقت. ودياموند بوعبود المحامية المحروقة على القضية الإنسانية، المنحازة للضمير، المتألمة التي تفيض إحساساً. القصة ظاهرياً تبدأ من خلاف بين توني حنا (عادل كرم) الساكن في منطقة فسوح في الأشرفية البيروتية، وياسر سلامة (كامل الباشا) المسؤول عن عمال إصلاح شبكات صرف المياه. توني يرفض إصلاح مزراب المياه في شرفته، بينما يقوم ياسر بإصلاحه رغماً عنه. يكسر توني المزراب فيشتمه ياسر علناً وأمام أهل الحي والعمال، رافضاً الاعتذار وكل محاولات طلال (طلال الجردي) لحل المشكلة قبل أن تتفاقم. تتفاعل الأمور وتصل إلى المحكمة والقضاء، لتنتهي بحكم لمصلحة أحد الطرفين. هذا ظاهرياً، أما باطنياً وفعلياً، فقصة الفيلم تبدأ من عمق الأزمة الفلسطينية- اللبنانية، وتداعياتها في نفوس الناس سواء كانوا سكان المخيمات من الفلسطينيين، أو لبنانيي المناطق المسيحية، وتتشعب وتعود إلى عمق ما تختزنه النفوس، بسبب ما عاناه كل طرف، والمتمثل بشخصي توني اللبناني وكامل الفلسطيني. ليس سهلاً أن يعيد زياد دويري فتح تلك الملفات الشائكة والقضايا الحساسة، وقد بلغ بجرأته حد تحدي الجميع، وربح الرهان والتحدي. هذا المخرج الذي اختار أن ينحاز للضمير والتاريخ والحقيقة والوجع الإنساني، استطاع أن يحكي الكثير من الأحداث بجرأة عالية، معيداً سرد حقائق مثبتة، فاتحاً جراح أهالي منطقة الدامور ومقدِّماً تفاصيل المجزرة التي لا يمكن محوها أو تجاهلها أو نسيانها، رغم تعمد المسؤولين إغلاق ملفات الحرب دون مداواة جراح الناس الذين تضرروا جسدياً ونفسياً وفقدوا أهلاً وعائلات وبيوتاً. توني حنا هو حالة إنسانية بالدرجة الأولى، ابن الحرب الذي حمل بداخله حقداً بسبب مجزرة شردته من أرضه داخل وطنه. والمشكلة الأهم التي سلط عليها الضوء دويري، أن الحرب انتهت وعادت الحياة إلى مجاريها وكأنها كانت حادثة سير بسيطة. طويت الصفحة ظاهرياً، لكن النفوس مازالت تحمل أوجاعها، ولا أحد يتجرأ على معالجتها أو التحدث عنها. كذلك أزمة ياسر الفلسطيني، أإنه يحمل وجعه أينما حلّ، وينفعل ويفقد سيطرته على أعصابه أحياناً، بسبب ما حل به وما شهده من حروب وتشرد مستمر. دويري عبقري في الإخراج، وشكل مع توما ثنائياً ناجحاً في القصة والسيناريو والحوار. الفيلم يمر بسلاسة بلا أي لحظة ملل وعلى امتداد قرابة الساعتين. تشويق ترتفع وتيرته بشكل تصاعدي. والجميل في العمل أنه يترك الجمهور بين ضفتي الانحياز للبطلين، فهو يتعاطف مع توني ويعذر ياسر، وكلما توسعت دائرة القضية، كلما تكشفت حقائق وأعيد خلط الأوراق مجدداً، لتختلط مشاعر المشاهدين معها. من هنا يترقب الجمهور النهاية بلهفة، وتأتي متطابقة تماماً مع مجريات الأحداث، ومنطقية جداً. لا يمكن تجاهل أداء كميل سلامة المتمكن من أدواته، والذي يطل بعد غياب بدور المحامي وجدي وهبي المدافع عن موكله «المظلوم» توني. بينما تقف مقابله المحامية نادين لتدافع عن ياسر، ولنكتشف داخل المحكمة أنها ابنة وجدي وهبي. هذه اللفتة أراد منها دويري أن تكون مواجهة أخرى تجسد الانشقاق بين أفراد الأسرة الواحدة. وهي بين صوتي الحقيقة، ووجهي العدالة والدفاع عن شخصين مذنبين بريئين، كلاهما ضحية السياسة وألاعيبها.ريتا حايك أدت دور شيرين زوجة توني حنا والمرأة والأم الخائفة على أسرتها وطفلتها، وهي صوت خلفي يحاول كبح جماح الزوج وتهوره، تقابلها بدور مماثل من الطرف الآخر كريستين شويري زوجة ياسر سلامة. بينما جوليا قصار دورها شرفي كقاضية، وطلال الجردي المسالم الوسطي الطيب. فيلم جدير بالمشاهدة بل تستمتع بإعادة مشاهدته أكثر من مرة، وسيبقى علامة فارقة ومميزة في السينما اللبنانية، ليس كونه الأول في الوصول إلى المنافسة النهائية في الأوسكار، بل لأنه صناعة حقيقية للإبداع ومحاكاة العقل والضمير بفن راق. حب الجمهور والعالمية تنافس «قضية 23» في الأوسكار مع أفلام من تشيلي والسويد والمجر وروسيا، عن فئة أفضل فيلم أجنبي، ونالها «امرأة رائعة» للتشيلي سيباستيان ليليو. النتيجة لم تخيب الآمال، إذ يعتبر الوصول إلى هذه المرحلة مكافأة حقيقية لفريق العمل وللسينما اللبنانية، التي تستحق أن تُمنح هذه الفرصة. اللبنانيون يعملون بحرفية عالية، يملكون المواهب والإبداع، إنما ينقصهم الدعم المادي والتسويق. الفيلم فاز بحب الجمهور أولاً، ونال 4 جوائز عالمية و12 ترشيحاً، وفتح باب «الأوسكار» أمام السينما اللبنانية. marlynsalloum@gmail.com
مشاركة :