لا تخفي النبرة الدرامية المباشرة في عنوان المقالة، وقد أردتها منذ البدء أن تكون كذلك، وأسعفتني ذاكرتي بعبارة كنت قرأتها في كتاب يتحدث عن العبقرية البشرية وأساليب تعزيزها. تبدو العبارة أقرب لمثال سائد على ألسنة الناس، أو عبارة جاءت على لسان أحد أبطال الأفلام؛ لكنها في حقيقة الأمر عبارة قيلت على لسان أحد عباقرة الموسيقى (وهو عازف كمان لم أعد أذكر اسمه) بعد أن جوّد إلى حدّ السحر في عزفه خلال حفل موسيقي حضرته إحدى الملكات الأوروبيات، وقد صرّح العازف العبقري بهذه العبارة بعد أن قالت له الملكة “سيّد فلان، أنت عبقري”. تتصادى عبارة “كنت كادحا قبل أن أكون عبقريا” في محمولها الدلالي مع عبارة أخرى تُنسبُ في العادة إلى بيتهوفن يقول فيها “العبقرية ليست شيئا هبط من السماء بل هي شيء لصيق بالأرض”، وتكمن أهمية هذه العبارات في كونها تشذب العبقرية من أجواء السحر والاستيهامات المغلّفة بالغموض وأطياف أشباح “وادي عبقر” التي تخلع على العبقرية سمات إعجازية وسماوية مفارقة لعالم البشر لا ينالها سوى من كان ذا حظوة مميزة لدى عالم الجنّ، وربما من هنا ارتباط العبقرية بالجنون لدى فئة واسعة من الناس. تنطوي هذه العبارة على أهمية استثنائية تتركز في مفردة “الكدح”؛ فهنا يكمن المعنى كله. يتعامل الناس في شتى أرجاء عالمنا مع الذكاء البشري (والعبقرية أعلى درجاته كما هو معلوم) على أنه ميزة فردية شكّلتها ترتيبات بيولوجية تصادفية؛ غير أنّ الكدح والانضباط والالتزام هي الخصائص الفردية غير البيولوجية التي تكفل تطوير ذلك الذكاء والارتقاء به نحو مثابات أعلى قد تفضي إلى فتوحات أو حتى انعطافات تاريخية في العلوم أو التقنية أو الثقافة أو الموسيقى، ولا يختلف الأمر مع اختلاف الحقل المعرفي؛ إذ يظل الكدح واحداً لا بديل له لإنجاز أهداف مميزة قد ترتقي لمراتب العبقرية. ثمّة مبحث مهم في الدراسات السيكولوجية وعلم الإدراك المعرفي يختصّ بدراسة السمات الشائعة لدى العباقرة وذوي الإنجازات المميزة، وتنفق حكومات البلاد المتقدمة أموالا طائلة لمعرفة تلك السمات والارتقاء بنظم التعليم لخلق فئة عبقرية قادرة على دعم ترتيب الدول في سلّم التنافس العالمي وبخاصة في حقلي العلم والتقنية، وتعدّ هذه الدراسات جزءًا أصيلاً من الأمن القومي الاستراتيجي لكلّ دولة. وتؤكّد تلك المباحث على أنّ الإنجاز العبقري يقوم على مثلث من العناصر هي “الكدح – الشغف – الرؤية” لا عبقرية، إذن، من غير كدح مدعوم بالانضباط والجدّية والصرامة والانكباب المتواصل على البحث والدراسة والتدريب، وهنا يأتي دور الشغف؛ إذ لا يمكن توقّع الجدية والعمل المتواصل والتدريب الشاق لدى من لا يمتلك الشغف اللازم لتجاوز مصاعب العمل ومشاقه التي قد تحدث انهيارا جسديا أو عصبيا لدى أشخاص لا يحظون بوهجة الشغف. أما الرؤية فهي المغناطيس السحري الذي يحرّك كوامن النفس ويدعو المرء الكادح الشغوف لتحقيق منجزات فريدة تماثل الانعطافات الملحمية في حياة البشرية. ليست العبقرية قدرا عشوائيا يجول في الطرقات بحثا عمّن ينال بركاتها المجيدة بفعل مصادفة عمياء، وليست صنيعة ملائكة أو شياطين؛ بل هي حياة كدح يديم الشغف جذوتها، وتدفعها الرؤية إلى مُرتقيات غير مسبوقة.
مشاركة :