لا كلام يمكنه احتواء المأساة والتعبير عنها، لا كلام، أيًا كانت بلاغته، يستطيع التأثير في المشاهد، فصور الدمار والخراب التي تطالعنا كل يوم من سورية الجريحة، أكبر من أي كلام يمكن أن يقال، شعراً أو نثراً، الألم تجاوز ذلك بكثير. كيف يعبر المسرح عن أوضاع بالغة القسوة والدموية، عن حرب لا تبقي ولا تذر، لا تفرق بين شيخ أو طفل، بين شاب أو فتاة، الكل غارق في دمائه، ومن يستطيع الفرار يفر إلى الشتات، إلى الألم المضني والـــشقاء المقيم، إلى الغربة التي تأكل روحه وتجعله كما لو كان قد فر متدثراً بأكفانه، فرّ ميتاً هو الآخر، فرّ لأجل أن يعيش القائد، ولتذهب البلاد وناسها إلى الجحيم. ربما دفع ذلك كله المخرج السوري محمد ديبان إلى البحث عن وسيلة أخرى تكون أكثر تأثيراً وأكثر بلاغة من أي كلام، بعد أن أصبح الكلام مكرراً ومبتذلاً، فلجأ إلى الرقص، ولأن فريق عمله من المشتتين المقيمين في ألمانيا، فقد حرص على ألا يتنكر لهويته العربية، مدركاً أنها إذا ضاعت ضاع، فلجأ إلى الرقص الصوفي، والدبكة، مازجاً ذلك بالرقص الحديث، ليظل الجسر قائماً بينه وبين المشاهد الغربي، وهذه المراوحة بين ماهو عربي وبين ماهو غربي، هى نفسها المراوحة التي يعانيها أبطاله بين مواصلة السفر والغربة، وبين العودة إلى أرض الوطن. العرض إنتاج ألماني سوري، شارك في الدورة العاشرة من مهرجان المسرح العربي في العاصمة تونس، عنوانه «حضرة حرة» والحضرة مصطلح صوفي يطلق على مجالس الذكر الجماعية، لكنه طورها أكثر لتكون أكثر حرية وأكثر قدرة على التواصل مع من لم يعاينوا تلك الأجواء، شارك المخرج في كتابة العرض مع أسامه الخفيري، والنص هنا أقرب إلى السيناريو منه إلى النص المسرحي، فلا حوار بين الشخصيات، لا مونولوج أو ديالوج، فقط هي شذرات أقرب إلى الشعر، جاءت مغناة لتخاطب الوطن «قل له إن المدن قد تفرقت» أو «من جوعي إليك كن لي كل شيء، كن سنداً لمن سقطوا، من جوعى إليك كن ما تريد يا وطن»، هي دعوة إلى الإرادة ، إلى الأمل في العودة مهما طالت الغربة وقست. يبدأ العرض على خشبة عارية تماماً إلا من بانوراما خلفية بيضاء، تستخدم كشاشة عرض عند اللزوم، لا ديكورات أو كتل أو حتى موتيفات، أنه العراء ولا شيء سواه، راقصون يرتدون الأبيض الذي يغطي كامل أجسادهم من الرأس وحتى القدمين، بدا الجميع كما لو أنهم جاءوا إلينا بأكفانهم من مقابر الوطن، فروا بأرواحهم المعذبة المنهكة التي عبرت عنها رقصاتهم، ثم بدأوا، واحداً تلو الآخر، في التحرر من هذه الأكفان، وبعدها تحتدم رقصاتهم التي طاوعتهم أجسادهم المرنة المدربة على أدائها بحيوية بالغة، يتوتر الإيقاع وتدخل الأجساد، أو إن شئت الدقة الأرواح، في الحالة التي يتلاشى معها الجسد ويشف، وتصبح الروح أكثر حضوراً، كأنهم حصلوا على حريتهم، مرة بالفرار من المذبحة، وأخرى بنزع أكفانهم عنهم، كأنهم بعثوا من جديد، لكنه البعث المؤلم المعذب. وفي دلالة على أنهم غادروا الوطن وإن لم يغادرهم هو، هناك صندوق كبير مغطى بسجادة عربية، يجاهدون جميعاً في جره أين ما ذهبوا، كأنها الهوية التي يقبضون عليها خوفاً من ضياعها وضياعهم، كأنه الماضي الجميل، كأنها الذكريات هي كل ماتبقى لديهم، يحملونها معهم في غربتهم واغترابهم، في شتاتهم وتفرقهم، كما تشتت وتفرقت بلادهم، وفي الخلفية، وزيادة فى كثافة الألم، تعرض الشاشة صوراً لأطفال وعجائز، منهم من قتل، ومنهم من فر، وإن ترك الفارون أرواحهم عالقة هناك في سماء الوطن الملبدة بغيوم القنابل والبراميل المتفجرة وسواها. وإذا كان الرقص قد جاء في البداية مضطرباً ولا يحمل مفاتيح تمكن المشاهد من معرفة «أصل الحكاية» فقد بدأت الأمور تتضح بعد ذلك مفصحة عن كنه هؤلاء الراقصين المتألمين المترددين بين البقاء في منافيهم وبين العودة إلى الوطن الذي أصبح منفى آخر أشد قسوة وإيلاماً من قسوة وإيلام الغربة. عبّر الراقصون عن تردّدهم هذا برقصات دائرية تمس الروح أو تخصها أكثر، رقصات تتماس مع رقصة «سما» التي ابتكرها جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، رقصات تحرر ممارسها تماماً من كل ماهو مادي، هي الروح المعذبة في غربتها، الساعية إلى الانتصار على الألم، عبر التطلع إلى السماء ومناجاتها سعياً إلى الخلاص. الكل يحمل حقائبه، ذهاباً وإياباً، لا استقرار على حال، وحده القلق، وحده الحلم بالعودة والرعب منها في آن، طالما أن الجاثم على صدر الوطن بقي جاثماً حتى لو تحول الوطن إلى رماد، إلى جثث، منها من يمشي على الأرض، ومنها من توارى تحت ترابه، الجميع ميتون. المسرح هنا وفي هذه الأجواء الروحية كان أكثر هدوءاً وأكثر بلاغة في تمرير رسالته، لكنه كان أكثر إيلاماً وشجناً، هو قصيد سيمفوني، ناعم وخشن في آن، يائس وتائه، لكنه يمسك بأمل ما، أمل العودة والخلاص، حتى ولو طالت الغربة والاغتراب، فثمة شيء قابع في الروح ينادي الوطن ويناجيه، وســـط كل هذا الألم تحضر الدبكة، وكأن يوماً سيأتي ليرقصوها هناك، في بيئتها الطبيعية، في مجالها الحيوي، في الوطن الذي يغنون له في النهاية «يا وطن يا وطن» ثم يغلق الستار على شيء من الأمل. وإذا كان المخرج قد وفق في اعتماده الرقص بديلاً عن الكلام، فقد وفق أيضاً في اختيار فريق عرضه، وهم جميعاً راقصون لا ممثلون، نبيلة حكم، غيث نوري، سجى النوري، جول الحلو، ماهر عبدالمعطي وهو راقص سابق في فرقة كاراكالا اللبنانية، ويعيش في المنفي الآن. البعض يرى أن المسرح كلمة، ومن دونها يخرج العرض عن دائرة المسرح، لكن «حضرة حرة» الذي جاء مقتصداً في كلامه، محتشداً برقصاته، كان أكثر بلاغة وتأثيراً من أي كلام، كان أكثر بهجة على رغم ما صدّره من ألم، وإن لم يتركنا من دون أمل، أمل العودة الذي لابد يتحقق يوماً، لعله يكون قريباً.
مشاركة :