في ظل الواقع المتردي الذي تعيشه الثقافة العربية بعامة، والإسلامية بخاصة، أصبح التراث معتركاً للباحثين عن أفق لحل أزمة الثقافة العربية الإسلامية. وقد اتخذ هذا الارتداد نحو التراث أشكالاً متعددة لا مجال لحصرها هنا، ومن أبرزها أن يُعَمَّد أحد اتجاهاته بوصفه الاتجاه الذي يمثل النور في نهاية النفق؛ ومن هذه الاتجاهات هو الاتجاه العقلاني، باعتبار أن الغرب إنما ارتقى إلى مرتقاه الحاضر بالعقل. وقد كان لفيلسوف قرطبة الكبير، ابن رشد الحفيد، السهم الأوفر في هذا المجال، بوصفه يمثل الجانب العقلاني المشرق من التراث. أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (520هـ/ 1126م - 595هـ/ 1198م)عاش في عهد دولتَي المرابطين والموحدين. وينتمي فيلسوفنا إلى أسرة تعد من أعرق الأسر الأندلسية، وكان جده هو أبا الوليد قاضي قرطبة، وأحد كبار الفقهاء المالكيين، كما شغل أبوه أيضاً منصب قاضي قرطبة. درس ابن رشد في قرطبة الفقه، والطب، وعلم الطبيعة، الرياضيات، والفلسفة بالطبع (1). "لم يثِر أي فيلسوف على مر تاريخ الفكر الفلسفي ما أثاره ابن رشد من دوي: فما أكثر ما مُجِد ابن رشد بعد وفاته، وما أكثر ما هوجم، وكُفِّر ابن رشد رسمياً في حياته، وبعد مماته، في حياته من جانب علماء الكلام المسلمين، وبعد وفاته من جانب الكنيسة ورجالها"(2). هكذا كان ابن رشد مثاراً للجدل، فقد انتقد "علماء الكلام؛ لأنهم أهل جدل لا برهان. فهم قد آمنوا بآراء معينة بناءً على اعتقادات سابقة، يجعلون همهم نصرتها وتأييدها"(3). كما انتقد التصوف ورفضه، وكذلك انتقد الفلاسفة المسلمين الذين سبقوه؛ لأنهم لم يلتزموا، برأيه، بالطريقة البرهانية الحقة، وبالتحديد، لم يلتزموا بآراء أرسطو. وكتابه "تهافت التهافت"، كما هو معلوم، كان رداً على الغزالي الذي حمل على الفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" فبدّعهم في عدة مسائل وكفّرهم في أخرى. ولم يكن ابن رشد مثاراً للجدل في الإطار العربي الإسلامي فقط، بل تعدّى تأثيره إلى العالم المسيحي، وذلك عندما ترجمت شروحه على كتب أرسطو في نهاية القرن الثاني عشر، أو في مطلع القرن الثالث عشر، على اختلاف بين المؤرخين، فعرف هناك بالشارح الأكبر، وسمّي بـAverroës. وبالرغم من أن أرسطو كان معروفاً في الوسط المسيحي قبل وصول شروحات ابن رشد إلى ذلك الوسط، فإن أرسطو لم يسبق ابن رشد "إلا كمنطقي إذ ترجمت كتب المنطق كما هو معروف منذ القرن السادس على يد بويسيوس"(4). بل يمكن أن نقول إن أرسطو قبل ابن رشد ليس هو نفسه أرسطو بعده، فأرسطو لم يقابل بالترحيب في هذا الوقت، "لأنه جاء بصورة جديدة؛ إذ جاء في صورته الطبيعية والميتافيزيقية، وهما صورتان كانت العصور الوسطى تجهلهما عنه تماماً"(5). فكان لا بد من الصدام بين التصور الأرسطي عن العالم والله، وبين التصور الذي تأخذ به الكنيسة عنهما. وامتد أثر ابن رشد عميقاً في الثقافة المسيحية في القرون الوسطى، حتى ظهر هناك اتجاه بارز سمّي بـ"الرشدية اللاتينية" اعتنق أصحابها آراء ابن رشد (التي هي آراء أرسطو) بل ونسبوا إليه آراء لم يقُل بها، مثل القول بالحقيقة المزدوجة. بعد هذا العرض السريع والموجز -والمخل ربما!- عن مدى أثر ابن رشد في العصور الوسطى، الإسلامية والمسيحية، نعود لنرى كيف نظر المفكرون والباحثون العرب المعاصرون لابن رشد، وكيف حاولوا استدعاءه لرفد واقعنا المعاصر المتخلف. ابن رشد: عقلانية في عقلانية في كتابه "النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد" يحاول المفكر الدكتور عاطف العراقي، بيان جوانب النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد- وإن كان ينتهي في الحقيقة إلى أن كلها ذات نزعة عقلية- وهو يصرح بهذا قائلاً: "وقد ذهبت في هذا الكتاب إلى القول بأن ابن رشد ذو نزعة عقلية دقيقة، وأن هذه النزعة تربط نسقه الفلسفي برباط محكم ودقيق وتسري في كل جانب من جوانبه"(6). ويحظى ابن رشد، الفيلسوف الخالد، بتعبير العراقي، كما يرى هذا الأخير، بمميزات ليست عند غيره من فلاسفة المسلمين، وهي: 1- يعد الفيلسوف الوحيد الذي حطم آراء الغزالي. 2- اتجاهه العقلي، وموقفه من الفلاسفة السابقين عليه سواء فلاسفة اليونان، أو فلاسفة الإسلام، والنسق الفلسفي الدقيق الذي قام بتشييده في مجال الفكر الفلسفي. 3- امتداد أثره أكثر من غيره إلى الفكر الفلسفي اللاتيني. 4- محاولة تقديمه أرسطو للفكر الفلسفي خالياً من الأخطاء والشوائب [الخطأ هنا قد يكون مجرد مخالفة أرسطو!]. 5- أنه من ذلك النوع الذي يدفع إلى القول بتفسيرات شديدة الاختلاف فيما بينها حتى أصبح الوصول إلى الحق وسط هذه التفسيرات من أصعب الصعاب (7). وهذا الطريق الذي سلكه ابن رشد هو الطريق الذي علينا سلوكه، وذلك "أننا إذا شئنا للفلسفة العربية التقدم فليس أمامنا إلا طريق واحد هو طريق العقل"(8). وهذه النزعة العقلية عند ابن رشد، كما يرى العراقي، ليست متمثلة فقط في الجانب الفلسفي، بل إن ذاتها "حياة ابن رشد تمثل الجانب العقلي... وإن شرحه لأرسطو واشتغاله بالطب ورده على ابن سينا والغزالي كانت كلها عوامل حاسمة في منزعه العقلي"(9). "وابن رشد إذا كان قد اطلع على كثير من آراء الفلاسفة كالفارابي وابن سينا وابن باجة وابن الطفيل وغيرهم، فإنه كان أكثر منهم التزاماً بالاتجاه العقلي وبخصائص الفكر الفلسفي، وإن كان الفلاسفة الذين سبقوه قد مهدوا له الطريق بمؤلفاتهم، إلا أنه كشف عمّا في فلسفتهم من أخطاء، إذ هو يتجه مباشرة إلى المذهب الأرسطي" (10). هكذا يكون مذهب ابن رشد الخاص هو في كونه متبعاً جيداً لأرسطو. ويحاول العراقي تبرير متابعة ابن رشد لمذهب أرسطو بالقول إن "كل فيلسوف في الواقع يتأثر بالعديد من الأفكار التي سبقته، بمعنى أن ليس فينا أصيل"(11). ولكن أليس هناك فرق بين التأثر بالآراء المختلفة وبين متابعة آراء فيلسوف بعينه حذو النعل بالنعل؟! ويختم العراقي كتابه بما كان ابتدأه به، وهو التأكيد على النزعة العقلية لابن رشد قائلاً: "ومن هنا كانت نزعته [=ابن رشد] نزعة تواكب العقل، والعقل يواكبها، حتى أصبح ابن رشد بحق فيلسوف العقل في الإسلام"(12). ابن رشد: العروة الوثقى القراءة الأخرى لابن رشد، التي سنقف عندها قليلاً هي قراءة الدكتور محمد عابد الجابري، وهو لا يختلف مع العراقي حول نزعة ابن رشد العقلية، بل هو يذهب فيها إلى أبعد من ذلك ليؤسسها "عقلانية جغرافية". فابن رشد ليس فيلسوفاً عقلياً؛ لأنه ذو نزعة عقلية فقط، وإنما لأنه أساساً من المغرب! فبرأي الجابري أنه و"منذ البداية تنطلق الفلسفة في المغرب والأندلس من رفض الطريق الذي سلكه بها فلاسفة المشرق"(13). وفي ظل هذا التأسيس التجزيئي الجغرافي، لن نعرف مكانة ابن رشد عند الجابري إلا إذا عرفنا مكانة الشيخ الرئيس ابن سينا عنده، وهو كما يرى الجابري "المدشن الفعلي لمرحلة أخرى في تطور الفكر الفلسفي في الإسلام، مرحلة التراجع والانحطاط"(14). نعم لقد مثل ابن سينا الازدهار، ولكنه فقط "الازدهار الكمي للثقافة العربية الإسلامية بضخامة مؤلفاته ووضوح تفكيره وسلامة أسلوبه، وأيضاً بكثرة ادعاءاته ولكنه مثل إلى جانب ذلك، الوجه الآخر لنفس الثقافة، فكان رغم كل ما أضفى على نفسه، وما أُضفي عليه من أبهةٍ وجلالٍ، المدشن الفعلي لمرحلة الجمود والانحطاط.. [وهو] ذلك الرجل الذي كرّس وعمل على تكريس لا عقلانية صميمة في الفكر العربي الإسلامي تحت غطاء "عقلانية" موهومة" (15). أما ابن رشد -بالعدسة الجابرية- فهو قد "تحرر معرفياً" "من هيمنة الجهاز الإبستمولوجي الذي كرسته في المشرق" مدرسة حران "بكيفية خاصة والأفلاطونية الجديدة بكيفية عامة، وأيديولوجيا من العوامل الاجتماعية - التاريخية التي صاغت حلم "المدينة الفاضلة" الفارابية و"الحكمة المشرقية" السينوية" (16). "لقد قطع ابن رشد مع السينوية [وهنا يقدم لنا الجابري دعوة] فلنأخذ منه [...] هذه القطيعة ولنقطع بدورنا قطيعة تامة ونهائية مع الروح السينوية "المشرقية" ولنخضها معركة حاسمة ضدها[!!]" (17) فإذا كنا نبحث في التراث عما يمكن أن يكون نافعاً لنا في هذا العصر، فإن "ما تبقى من تراثنا الفلسفي أي ما يمكن أن يكون فيه قادراً على أن العيش معنا عصرنا لا يمكن أن يكون إلا رشدياً". وابن رشد "يجُبُّ" ما قبله، "فكل من عاش أو يعيش لحظة ابن سينا بعد ابن رشد إنما قضى أو يقضي حياته (الفكرية)خارج التاريخ [وهكذا] قضينا نحن العرب حياتنا بعد ابن رشد خارج التاريخ (=في جمود وانحطاط)؛ لأننا تمسكنا بلحظة ابن سينا... [بينما] عاش الأوروبيون التاريخ الذي خرجنا منه؛ لأنهم أخذوا منا ابن رشد فعاشوا لحظته وما زالوا يفعلون"(18). هكذا يكون ما قبل ابن رشد هو "جاهلية فلسفية"، "نعم إن فلاسفة المشرق كانوا يمارسون نوعاً من التفكير العقلي، ولكنهم كانوا ينتهون دوماً إلى نوع من التصوف والغنوصية. أما ابن رشد فلقد احتفظ بعقلانيته الصارمة وواقعيته المتفتحة إلى آخر لحظة من حياته" لقد كانت فلسفة ابن رشد "فلسفة مستقبلية على الرغم من ارتباطها بأرسطو [...] إن الفكر الرشدي كان أقرب إلى عصر النهضة في أوروبا منه إلى فكر ابن سينا"(19). سأكتفي هنا بالإشارة إلى موقف هذين الباحثين، وسأتوقف في مقال قادم -إن شاء الله- عند مواقف أخرى لباحثين أُخر لنرى كيف نظروا بدورهم إلى ابن رشد وإلى إمكانية "استدعاء" فكره لرفد واقعنا المعاصر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) د. زينب محمود الخضيري، أثر ابن رشد في فلسفة القرون الوسطى، 1983م، دار الثقافة، ص 15 - 16. (2) ص 5. (3) د. عاطف العراقي، النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد، الطبعة الرابعة، 1984م، دار المعارف، ص 182. (4) أثر ابن رشد في فلسفة القرون الوسطى، ص 41. (5) ص 41. (6) النزعة العقلية في فلسفة ابن رشد، ص 23. (7) ص 20 - 21. (8) ص 24. (9) ص 27. (10) ص 83. (11) ص 87. (12) ص 362. (13) د. محمد عابد الجابري، نحن والتراث، الطبعة السادسة، 1993م، المركز الثقافي العربي، ص 41. (14) ص 148. (15) ص 100. (16) ص 43. (17) ص 50. (18) ص 49. (19) ص 249 - 250. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :