التعايش لدى الفيلسوف ابن رشد

  • 7/17/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يعتقد البعض أن حالة اللاتعايش هي السائدة عبر العصور، وتتمثل تلك الحالة لدى قوى التطرف والتشدد بشكل كبير لما تشكله لهم من قوة ومكانة ومكاسب لربما يتم فقدها إذا ما تم التعايش بين الناس. ويتم تصوير ذلك بالعداء الديني بين أتباع المعتقدات والثقافات لاختلاف مرجعياتهم، وإعطائها مسميات عنيفة من أجل شحذ الهمم. ويمكن ملاحظة ذلك في العلاقة بين الشرق والغرب، بين المسلمين والعرب من جهة والغرب المسيحي واليهودي واللاديني من جهة ثانية، لذا من الضروري استقراء الدراسات التي تتحدث عن التعايش الفكري كمدخل لمعرفة مستوى العلاقة التي كان عليها العلماء والفلاسفة والفقهاء، فهل كان هناك تعايش فكري بينهم مما ساهم في الحضارة الانسانية؟ بمعنى هل هناك تعاون ولقاء وحوار ونقاش بين الفلاسفة، والعلماء، والفقهاء، والحضارات الإنسانية؟! لذا اخترنا علمًا من أعلام الأمة، عاش في أقصاها على حدود حضارة أخرى، تميز في الكثير من العلوم، وتبوأ الكثير من المناصب، وألَّف الكثير من المصنفات، هو قاضي قضاة الأندلس والمغرب، وفقيه دولة الموحدين، وفيلسوف المسلمين، والطبيب والفلكي والفيزيائي العربي، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (520هـ - 595هـ) يسميه الأوروبيون (Averroes). قد لا نجد الكثير من الدراسات التي تعنى بقيم التعامل مع الغير والتعايش والتسامح، وهي القيم التي يحتاجها جيل اليوم الذي يعيش حالة من التنافر والتباعد والانزواء ودعوات الصدام، في هذا السياق من المهم إعادة قراءة سجل التاريخ لمعرفة حالة التعايش الفكري المعززة للتسامح وقبول الآخر المختلف، لذا السؤال هل عاش فيلسوف قرطبة ابن رشد مرحلة التعايش الفكري مع فلاسفة وعلماء الغرب؟ أم مارس الانزواء والتقوقع داخل شرنقة الجمود؟! لقد تجلت قيمة التعايش الفكري عند الفيلسوف إبن رشد في خطاباته ومناقشاته وكتبه مما أكد على العلاقة بين حضارتين، حضارة العرب والمسلمين وحضارة الغرب والإغريق، وهي التي تؤكد على مستوى التعايش التي تنفسها الفيلسوف والفقيه ابن رشد، فأعمال ابن رشد في الفلسفة جزء كبير منها شرح لفلسفة أفلاطون وأرسطو وغيرهما، فقد استطاع ابن رشد أن يكون جسر العلاقة بين الثقافة الإسلامية العربية والثقافة اللاتينية الغربية، فيعتبر من الرواد الذين قرأوا في كتب الإغريق القدامى الذين يُعملون العقل، وقد استفاد الغرب من كتبه لما فيها من شروح وتحليلات لأكبر الفلاسفة. إن حالة ابن رشد تمثل أنموذجًا متقدمًا في التعايش الفكري، فالفقيه والفيلسوف ابن رشد بمرجعيته الإسلامية العربية القائمة على النقل يغوص في الثقافة الإغريقية الغربية القائمة على إعمال العقل، إنه تعايش بين ثقافتين بمرجعيتين مختلفتين، النقل والعقل. فما هو التعايش الذي مارسه ابن رشد وترك أثره في كتبه ومصنفاته؟! ابن رشد لم ينفتح ويتعايش من أجل التقليد الأعمى، ولم يسعَ للانصهار والذوبان في الآخر، ولم تكن أعماله لنبذ الآخر وفرض السطوة عليه، بل هو الانفتاح وقبول الحق واحترام الرأي بعيدًا عن التعصب للعقيدة واللغة والانتماء، ويمكن قراءة ذلك في كتاب «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، وهو كتاب يحاول التقريب بين فلسفة العقل ونقل الشرع. لقد قرر ابن رشد ضرورة استلهام المنهج العقلي من ثقافات أخرى، وفي هذا انفتاح ثقافي على حضارات أخرى، وربما حضارات سابقة (يونانية)، فيقبل ما بها من حق، ويناقش ما بها من تعارض، ويرفض ما بها إن كانت خطأً، وهو موقف نقدي أصيل. لقد كان ابن رشد حريص على نشر التعايش وقبول الآخر، فيتعايش مع الآخر رغم اختلاف عقائده وثقافاته، فقد جاء في كتابه تهافت التهافت: «من العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي لنفسه»، يقول الدكتور محمد عابد الجابري في ذلك: «إن رغبة فيلسوف قرطبة في احترام المنظومة الأرسطية جعله يضطر إلى تأويل بعض آراء أرسطو تأويلاً خفيفًا ذكيًا، وذلك حتى لا يشوهها من جهة، وحتى لا يتركها تحمل تناقضًا ظاهرًا صريحًا مع العقيدة الإسلامية»، فهو يلتمس العذر لأرسطو، وذلك لاختلاف المرجعيات بينهما. حاجتنا اليوم كبيرة في زمن التطرف والتشدد والغلو والانغلاق والإقصاء، وهي الثقافة التي عاشت دهرًا من الزمن في ظل النيل من العلماء والفلاسفة والفقهاء، إننا اليوم في حاجة ماسة لإحياء القيم الإنسانية مثل التعايش والتسامح وقبول الآخر باعتبارها قنديل النور لأجيالنا القادمة، وابن رشد هو أحد الفلاسفة والفقهاء والأطباء والقضاة الذين يستنير الغرب بعلمهم.

مشاركة :