بمعاهدة لندن الموقّعة في العام 1913 بين دول رابطة البلقان المنتصرين والإمبراطورية العثمانية، لم يخسر الأتراك البلقان فحسب وإنما خسروا أيضا المسيحيين والعرب الذين يعيشون في الشرق الأوسط. هذه الفئات لم يتسن استيعابها بنجاح ضمن الإمبراطورية العثمانية على مدى قرون من الزمن، وفي أعقاب نجاحات الدول الجديدة كان من شبه المستحيل لنظراء دول رابطة البلقان الشرق أوسطيين أن يذعنوا للسلطنة بعد ذلك. كان الأتراك الشبان قلقين بشكل خاص من انتشار الولاء للفكر اليوناني من مناطق غرب الأناضول والبحر الأسود إلى وسط الأناضول، نظرا إلى أنّ اليونانيين في ذلك الوقت كانوا أقوى من الأتراك اقتصاديا وأكثر علما. كانت هناك أقلية أخرى ضمن الإمبراطورية العثمانية تتمتع بموارد مالية وهم الأرمن. كان الأتراك الشبان يعتقدون أن هاتين الفئتين المسيحيتين تهددان وجود وسلطة الدولة، وأن وجودهما نتيجة مباشرة لتسامح الحكومات العثمانية السابقة. ورأى الأتراك الشبان أنه، في ظل نفوذ الألمان، فإن الأقليات المسيحية التي تتحول ببطء إلى قوة اقتصادية وسياسية ستسيطر في نهاية المطاف على الدولة. بعد حرب البلقان الثانية، التي انتهت في 1913، اتخذ قرار بالقضاء على كل العناصر المسيحية في المجتمع العثماني ومصادرة ثرواتها. وتم تطبيق خطة ممنهجة لتحقيق هذا الهدف. ومع قرب خريف 1913 بدأت تتشكل ميليشيات محلية. وبينما كانت الميليشيات تتأهب لاشتباكات محتملة، خضع السكان المحليون لدعاية مكثفة ضد الأقليات المسيحية. فقد كتب الصحافيون مقالات لتشريب العامة بالفكر الأصولي. وكتب حسين كاظم، عضو الرابطة الإسلامية يقول “إن وجود مثل هؤلاء الكفار بيننا يمثل خراجا في جسدنا ولعنة على ديننا. كل علاقة معهم هي وصمة عار لنا، وكل صلة هي نكبة روحية… بغض النظر عن وضع أي مسيحي، فبالنسبة لنا، هو أعمى لمجرد أنه مسيحي، وهو بلا كرامة إنسانية لمجرد أنه مسيحي”. الأتراك كانوا قلقين من انتشار الولاء للفكر اليوناني نظرا إلى أن اليونانيين كانوا أقوى من الأتراك اقتصاديا وأكثر علما واستخدمت كل الوسائل الممكنة في التحريض على كراهية المسيحيين، وخاصة، اليونانيين. ونشرت الدولة دعاية مفادها أنه طالما بقيت تلك العناصر المسيحية، فسيكون مصير الشعب التركي الفقر، وسيكون محكوما على المسلمين بالعيش دون أمن أو كرامة، وأن الدولة التركية تواجه خطرا عظيما. وجرى تلوين المناطق التي انفصلت باللون الأسود على الخرائط وتم تعليق تلك الخرائط على جدران المدارس مصحوبة بكلمة، ثأر. ونشر رجال الدين والناطقون باسم الحكومة خطابا مفعما بالانتقام والكراهية في أرجاء الدولة. وبدأت الهجمات ضد اليونانيين في العام 1914 واستهدفت الأرمن بعدها بعام. وبالنسبة للقوات المسلحة، أصبحت الطورانية مذهبا جديدا تقريبا، فقد جرى تعليم صغار الضباط نظريات الطورانية الشاملة. أما بالنسبة للوحدويين الأتراك، فقد بات واضحا آنذاك أنه لا يمكن استثناء العرب الذين قاوموا الاستيعاب لقرون من الزمن. ووفقا لعقليتهم، فإن العرب الذين اتضح عدم إمكانية دمجهم في تركيا، يتعيّن إذلالهم بضربة قوية لمنعهم من الانفصال. لم يقبل العرب قط الحكم التركي وكانوا يطالبون دوما بالحكم الذاتي. كانوا يعتبرون أنفسهم عرقا شريفا وأصحاب الإسلام ويفخرون بأن القرآن نزل من السماء بلغتهم. غضب كثير من العرب بسبب الانتهاكات التي ارتكبها مسؤولون أتراك لا يعرفون العربية أو ثقافة العرب. قمعت قوات الأمن كل الاحتجاجات العربية بمنتهى القوة. مهزلة الخلافة العثمانية واقعا وتمثيلا من بين جميع المناطق الناطقة بالعربية، برزت سوريا كشوكة في خصر الأتراك. كانت توجد في سوريا طبقة ثرية على اتصال بسياسيين ورجال أعمال في دول أوروبية. كان المسيحيون والمسلمون في سوريا يريدون بناء ودعم نظام متجانس لأنفسهم تمشيا مع ماضيهم متعدد الثقافات. رفض الوحدويون الأتراك وانزعجوا من تلك المحاولات للانفصال وكان يتحيّنون الفرصة لتطبيق سياساتهم المناهضة للمسيحيين والعرب في سوريا. لم تكن لدى الوحدويين النيّة لمنح الحكم الذاتي للعرب حتى وإن كلّفهم ذلك خسارة قلوب وعقول العرب جميعا. كان لبنان، الذي حصل على وضع الحكم الذاتي بدعم الفرنسيين، الهدف الأول للوحدويين الأتراك. تم إلغاء الحكم الذاتي في لبنان في الأول من نوفمبر 1916 وأقيل الحاكم المسيحي اوهان كويومكويان وحل محله علي منيف الموالي لتركيا. قال نائب إسطنبول صالح جيمجموز “لبنان أصبح جزءا من تركيا بدلا من كيس دهني في جسد (الإمبراطورية)”. تسببت مصادرة الحيوانات في لبنان وما صاحبها من نقص في الحبوب في مجاعة واسعة النطاق. في العاشر من مارس 1917، وخلال اجتماع للكونغرس قال نائب لبنان الأمير عادل متحدثا عن وفاة الآلاف “لا نرى فرقا بين الديناميت والخبز عندما يتعلق الأمر بلبنان وبيروت. على السبيل المثال، من المحظور نقل ولو أوقية واحدة (1280 غراما) من الدقيق”. صادرت الإمبراطورية العثمانية أيضا الجمال في سوريا مما جعل من المستحيل نقل البضائع التجارية إلى لبنان. هدد جمال باشا، الذي لعب الدور الرئيسي في قمع العرب، المصرفيين والتجار من أجل الإبقاء على التكافؤ بين العملة الورقية والذهب. وعندما رفض المساعدات الأميركية للمنطقة، هلك عدد كبير من السكان سريعا. ضطهد جمال باشا الزعماء في سوريا، وخاصة أولئك الذين يشغلون مناصب عليا في الحكومات المحلية والمتعلمين. وكان عبدالحميد الظواهري عضو وفد الأعيان والنائب السابق شفيق المعوض بين 36 شخصا أعدموا بأوامر من جمال باشا خلال ولايته. وتم نفي أسر وأقارب المدانين من سوريا إلى الأناضول ومن ثم سحق الزعماء المحليين للشعب السوري. بسبب السياسيات الأمنية وفظائع مسؤولي الإمبراطورية العثمانية، انتهى المطاف بالمحاربين العرب إلى التعاون مع البريطانيين في سوريا وبلاد ما بين النهرين وذكرت وثائق المحاكم العسكرية أن جريمتهم كانت “تشكيل منظمة سرية”. كان نشاط المنظمة يهدف إلى إقامة علاقات مع الدبلوماسيين البريطانيين والفرنسيين من أجل الحصول على الحكم الذاتي لسوريا. كانت المحاكم العسكرية مغلقة في وجه العامة إذ لم تسمح للمتهمين بالاستعانة بمستشاريهم القانونيين وكانت الأحكام تنفذ على الفور. عندما قدّم فيصل بن حسين باشا أمير مكة التماسا إلى جمال باشا نيابة عن السجناء، لم يكتف جمال باشا برفض الطلب وإنما أمر بالقبض على فيصل باعتباره يشكّل خطرا على الدولة. عقب تلك الأحداث أعلن الأمير حسين أمير مكة، والذي يرجع نسبه إلى النبي محمد، الاستقلال في يوليو 1916 واحتل جزءا كبيرا من منطقة الحجاز. أعاد الأمير حسين بعد ذلك الالتزام بالولاء للخلافة والسلطنة. كان تمرّده ضد الوحدويين الأتراك، وأرجعه أيضا إلى الفظائع التي ارتكبها جمال باشا الملقب بالسفاح، ومنها اضطهاد المسيحيين. بسبب السياسيات الأمنية وفظائع مسؤولي الإمبراطورية العثمانية، انتهى المطاف بالمحاربين العرب إلى التعاون مع البريطانيين في سوريا وبلاد ما بين النهرين. وبذلك فقدت الإمبراطورية اثنتين من مدنها المقدسة فيما تقلص نفوذ الخلافة في المنطقة. كلّفت السياسات الموغلة في المركزية والسياسات العنصرية والقومية والقمعية، الإمبراطورية تلك الأراضي، لكن أكثر ما خسرته كان قلوب وعقول الناس الذين يعيشون في تلك المناطق. التاريخ، بمعنى ما، يكرر نفسه دائما. فأولئك الذين يجهلون تاريخ الإمبراطورية العثمانية يجدون أنفسهم الآن بيادق في لعبة بين قوى كبرى تسعى للهيمنة والسيطرة على المنطقة. ومثلما قال والتر بنيامين، فإن معرفة الماضي ضرورية من أجل الحرية. لكن كيف نتعلمه هو أمر أكثر أهمية. كل شيء حدث في الماضي لا يزال يمثّل خطرا، لكن في الوقت نفسه، فإن التعويض عمّا حدث في الماضي ممكن أيضا. المجتمعات المتحضرة هي المجتمعات القادرة على حلّ مشكلاتها بالمرونة والمصالحة. وعلى النقيض، فالمجتمعات غير المتحضرة تواصل حلّ مشكلاتها بالعنف.
مشاركة :