لماذا حين تعجبنا لوحة تشكيلية نتوقف بدهشة أمامها ونقول: «يا الله، هذه لوحة متحفية»، وكذلك الأمر حين نشاهد منحوتة رائعة، أو قطعة فنية مختلفة تلامسنا، وتحرك شيئًا في دواخلنا؟ والإجابة البسيطة هي أن المتحف لا يقتني سوى الأعمال العظيمة، المنجزة باحترافية عالية، والتي تحمل دلالات تأويل مختلفة، تجعلنا نفكر مرارًا، وكل مرة ننظر نحو العمل، نكتشف زاوية جديدة لم نتنبه لها من قبل، فالأعمال الخالدة تُقرأ بطرق مختلفة ومتجددة على مر العصور. هكذا كنت مع أعمال النحات العراقي معتصم الكبيسي، الذي أقام مؤخرًا معرضًا في دبي ضم نحو سبعين منحوتة رائعة بعنوان «تراتيل الحرب والسلام» في إشارة واضحة إلى الشأن العراقي، وما تعرض له العراق من حروب طويلة وانتهاكات متكررة، ولكن يبقى السؤال هو كيف يمكن لنحات أن يعبر من خلال منحوتة من معدن ثقيل وصلب، هو البرونز، عن هذا الانتهاك والدمار؟ وهو ما فعله الكبيسي باقتدار ووعي عميق، متخذًا من العسكر رمزًا للسلطة، ومن الطبول تعبيرًا عن الحرب، ومن السمنة والترهل عنوانًا لفساد سلطة العسكر، بحيث جاءت معظم المنحوتات البرونزية في حالات معبرة ومتنوعة، إما عن مجموعة عسكر يقرعون الطبول، أو أحدهم يصعد فوق الآخر، أو جندي يدفع عربة طفل، أو صراع جنديين سمينين، أو عسكري نائم يغطي نصف وجهه بالبيريه بينما الجرذ، كرمز للخراب، يعيث ويلهو فوق لحافه، وفي الوقت نفسه حاول التعبير عن بقايا الاحتلال الأمريكي من مدرعات وسيارات همر وما شابه ذلك. في كل قطعة كان الكبيسي يفتح آفاقًا جديدة للتفكير واحتمالات التأويل، وهذا دور مهم للفن، فحالة عسكري سمين ومشوَّه، له ذيل حيوان، ويدفع أمامه عربة طفل، لا نعرف دلالة واحدة ثابتة للمعنى، بل احتمالات متعددة، فهل هو التحرير والسير بالطفل العراقي نحو المستقبل، هل هو مقاربة بين وحشية العسكري وإنسانيته، هل هو تعبير خروج الحياة/الطفل من الموت/العسكري، هل هي مقاربة بين الماضي والمستقبل؟ لا يمكن الوثوق بدلالة واحدة، فالكبيسي فنان حقيقي يدرك أن من أجمل مهام الفن حالة الصدمة والشك، وليس اليقين، من هناك استطاع تطويع البرونز من خلال مراحله المتعددة، منذ الفكرة والتصميم وحتى مراحل تحويل التصميم إلى منحوتة من الطين، ثم المطاط، فالبرونز، تلك العملية المعقدة تستحق في المقابل أفكارًا متعددة وعميقة.
مشاركة :