حتى لا نعود إلى مربع الانقسام على الهوية

  • 3/13/2018
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

الحروب الفيسبوكية ومعها الجدل المستعر حاليا حول موضوع المطالبة بالمساواة في الميراث تؤكّد أن القضية لم تطرح على النقاش العمومي بالشكل المطلوب ولم تكن موضوع حوار اجتماعي واقتصادي وثقافي موسع يمكنه أن يؤسس لتوافق مجتمعي في قضية جدّ شائكة ومعقدّة. ذلك أنّ مطلبية المساواة في الميراث هي في عمقها المعرفي تشريع قانوني من خارج دائرة الشريعة بل من خارج أكبر الدوائر المقاصدية في النصّ الدينيّ، وهي في التجربة السياسية تأسيس لمقولة مدنية الدولة بما هي تجاوز كامل للمنظومة الدينية، وهي في التفكير الإنسانيّ بحث عميق في مقولات “الجندرة” و”الملكية الخاصة” يلامسان نقديّا المقاربة الدينية، وهي في التفكير المدنيّ إعادة تأثيث لمقولة المجال العامّ والخاصّ. قضية المساواة في الميراث، ليست نزهة أو ترفا ثقافيا لمجموعة من الناشطين في المجال النسويّ أو مكمن مزايدة أيديولوجية ضدّ المحافظين والمتمسكين بحرفية النص الدينيّ، بل هي منظومة “تشريعية ثقافية مدنيّة” لمجتمع قائم راض بها، أو لمجتمع قادم سيرضى بها. وللأسف لم تتمثّل لجنة الحريات الفردية والمساواة في تونس، القضية من زواياها الحضارية والثقافية العميقة ولا من مقاربات البيئة الاجتماعية والدينية للمساواة في الميراث، ولم تدفع إلى “أعلمة النقاش” في قضايا النصّ والاجتهاد في منظومة الاجتهاد، وبراديغمات الدولة المدنية والعلمانية، والحريات الفردية والعامّة. ولولا بعض الاجتماعات الضيقة للغاية وذات الدورية الضعيفة مع قلة من الأكاديميين والباحثين في مثل هذه المواضيع المذكورة آنفا، لجزمنا بأنها لجنة فنية بحتة لطرح مشاريع قوانين طلبها الفاعل الرسمي ممثلا في الرئيس الباجي قايد السبسي. صحيح أن الأستاذة بشرى بلحاج حميدة رئيسة اللجنة، قد أعلنت في يناير المنصرم، تأخير الإعلان عن نتائج مشاوراتها إلى يونيو عوضا عن فبراير الفارط، لتكريس المزيد من التشاركية في مشاورات اللجنة، غير أنّ الصحيح أيضا أنّ اللجنة لم تنخرط جدّيا في دمقرطة الحوار حول تقاسم الميراث ولم تحوّل القضية من اقتراح فاعل رسمي إلى موضوع تطارح مجتمعي يؤصل لامتزاج الآراء العريضة حول الموضوع، ويحول دون تصييره إلى محلّ تجاذب اجتماعي حاد صلب المجتمع بالإمكان حاليا رصد مؤشراته الخطيرة على أكثر من مفصل. وعلى الرغم من التقصير الواضح من اللجنة في التعاطي مع ملفّ تاريخي ومصيري إلا أنه على اللجنة أن تتدخل بشكل استباقي، لكي تمنع تطور إرهاصات الانقسام المجتمعي على وقع شعارات متناقضة تفضي إلى استدرار انقسام قديم جديد بعناوين دينية على أنّه “من ليس مع تقاسم الميراث ظلامي وداعشيّ” و”من مع تقاسم الميراث مرتدّ وصابئ عن الدين”. على اللجنة أن تمنع اتجاه الجدال إلى منحاه الأحادي واتجاهه التناقضي وأن تؤسس لخطاب اتصالي عقلاني ومسؤول قوامه تصالح المشروع مع بيئته ومع البنى الفكرية والرمزية والاعتبارية للمجتمع، وأنه مؤصل على مقاربة التعدد والتوسع ومزيد استيعاب المياسم المدنية ضمن المقاربات القانونية والتشريعية في البلاد. تدخل اللجنة والتي على رأسها ومن بين أفرادها ثلة من العقلاء المسؤولين، بات واجبا اليوم لا فقط لأن خطاب الكراهية والانقسام بات يطل برأسه من شبكات التواصل الاجتماعي ويهدّد بإعادة استحضار مفاهيم ودلالات ومصطلحات التناقض والصور النمطية السمجة، بل أيضا لأن ملفات التباين الشائكة تجسد الأوراق الرابحة الحقيقية للمستثمرين في الانقسام والساعين إلى الاحتراب السياسي بوقود الأيديولوجيا. فصقور النهضة يتصيدون هذه اللحظة للمزايدة على مسار التوافق مع النداء، وصقور الأخير ينتظرون هذا الملف للاستدلال على عدم جدية النهضة في تأصيل مدنية الدولة، وصقور المعارضة يتحينونها للمزايدة على أحزاب الحكم التي تركت لجنة بلحاج حميدة دون إسناد برلماني، والشعبيون يستثمرون هذا الملف للمزايدة في قضايا الهوية والدين، أما السلفيون من كافة ألوانهم فينتظرون الخطوات القادمة لتدشين موسم عودة سدنة الفقه وسند الشريعة تحت شعار “اسمعوا منا بعد أن سمعتم منهم”، وتحت “منهم” بالإمكان وضع قائمة لا تنتهي من الأحزاب السياسية التونسية. التوافق السياسي والاجتماعي واحد من أهم مكاسب الثورة التونسية، وحري بمن دخل الإصلاحات القانونية والتشريعية موحدا أن يخرج منها أكثر لحمة وتراصا، فلا قيمة لإصلاح قانوني يتملكه البعض عنوان حداثة، ويتجسّده الآخرون مقولة اغتراب. الاستثناء التونسي كامن في نحت المعادلات الصعبة وتكريسها، ثنائية “الحداثة والمقاصدية” و”مؤسسة العائلة والحريات الفردية” و”الدولة والحريات العامة”، و”الحوار زمن الاختلاف في الأدوار والأفكار”، وهو مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بتكريس كل هذه الثنائيات والمعادلات.

مشاركة :