مارلين سلوم شكل الماء يختلف حين يتجسد في شكل المشاعر، فيتفاعل بين الحقيقة والخيال، وبين الحب والكره، والإخلاص والتآمر أو الخيانة والتجسس. فيلم «شكل الماء» يأخذ كل تلك الأشكال ليصل برسالته الإنسانية إلى الجمهور، وبين ما تراه منطقياً، وبين ما يبتعد نحو الخيال العلمي البحت، استطاع المخرج جييرمو ديل تورو الفوز بالأوسكار، وهو يستحق ما وصل إليه. ككل فيلم سبقته سمعته إلينا، نذهب إلى الصالات بتحريض من الفضول أولاً، ونكون في هذه الحالة كمن يريد أن يثبت مشاركته في هذا الحدث، وأن قطار الفرح لم يفته، وأنه شاهد وأبدى رأيه يوماً في عمل سيبقى مصنفاً أبداً في خانة الفائز بمئة جائزة (و270 ترشيحاً)، منها أربع جوائز أوسكار (أفضل فيلم وإخراج وإنتاج وموسيقى)، والكرة الذهبية من «جولدن جلوب» و«الأسد الذهبي» من مهرجان فنيسيا. «شكل الماء» أو «ذا شيب أوف ووتر»، المعروض حالياً في الإمارات، من الأعمال المميزة والمختلفة، ليس لأنها نالت الكثير من الجوائز، بل لأنها خلطة ناجحة من الخيال والإثارة والتشويق والفانتازيا. وفوق كل هذا، وضع فيها المخرج المكسيكي جييرمو ديل تورو رشة من الجاسوسية. هل نبدأ من القصة أم من المحطات التي ميزت العمل ككل، فخرج عن المألوف ولم يكرر ذاته أو الآخرين، رغم التقائه مع عدد من الأفلام الناجحة في نقاط مشتركة واضحة؟ القصة بسيطة تمر بسلاسة بدون تعقيد، رغم المعاني الفلسفية فيها، لذا نجح ديل تورو- وقد شاركته في كتابة السيناريو فانيسا تايلور- في الوصول إلى الجمهور بلغته السهلة، وتسلسل الأحداث بشكل منطقي. هي قصة حب في زمن الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا (الاتحاد السوفييتي سابقاً) في مطلع الستينات، والسباق المحموم لغزو الفضاء والتسلح، لكن تلك المعارك السياسية لا تشكل لدى المخرج، سوى الخلفية التي بنى عليها القصة الأساسية، وهي علاقة الحب الغريبة، بين عاملة التنظيف البكماء إليزا إسبوسيتو، أدتها باقتدار سالي هاوكنز، وبين مخلوق برمائي عجيب له زعانف كالأسماك، وجسم إنسان عملاق (أداه دوج جونز)، جاء من كوكب مجهول وتم الاحتفاظ به لإرساله إلى الفضاء. جوهر القصة يكمن في تلك العلاقة بين البطلين، والتشابه بينهما، ومعاني الإنسانية والقهر والتعذيب النفسي التي يتعرض لها البعض. تلك الفتاة غير الجميلة، التي تعمل في تنظيف المعمل الحكومي السري في ولاية بالتيمور، تجد في هذا الكائن توأماً لروحها، وبعد الخوف منه، تبدأ في التواصل معه بالإشارة. هو غريب عن المخلوقات البشرية وكوكب الأرض، وهي غريبة أيضاً عن هذا المحيط الذي تعيش وسطه، ولا تجد ما يربطها به. ليس في عالم إليزا سوى زميلتها زيلدا فولر (الرائعة دائماً أوكتافيا سبنسر)، وجارها الرسام جيلز (ريتشارد جينكينز)، والذي يعاني بدوره الوحدة بسبب «مثليته» وعدم اعتراف الآخرين بموهبته باستثناء إليزا الطيبة والودودة. وضع ديل تورو في شخصيات أبطاله مجموعة من الرموز التي أراد تسليط الضوء عليها، فزاد من جرعة الإحساس بالقهر والتمييز العنصري والضعف والمعاناة النفسية، بسبب نظرة المجتمع لهم، حيث اختار البطلة فتاة بكماء، صديقتها سمراء البشرة (في زمن التمييز العنصري في أمريكا)، حبيبها مخلوق برمائي، وجارها «مثلي» منبوذ.كعادة هذه النوعية من الأفلام، يبدو المخلوق العجيب هو ضحية البشر، والكائن المستضعف، الذي يجبرك المخرج على التعاطف معه، رغم بشاعة شكله وضخامته. ولا يكتفي ديل تورو بجعله ضحية اللعبة السياسية بين دولتين جبارتين؛ أمريكا التي تؤهله لإرساله إلى الفضاء، وروسيا التي تتجسس عبر عميل لها زرعته داخل المعمل، وتحاول الوصول إليه لقتله أو اختطافه قبل أن تنجح التجربة الأمريكية.. بل يزيد جرعة الظلم من خلال الضابط ريتشارد ستريكلاند (مايكل شانون)، المكلف بحراسة ومراقبة البرمائي؛ إذ يقوم بتعذيبه وتعنيفه، ما يزيد من تعاطف إليزا والجمهور معه. كثير من صفات الغرور والغطرسة و«الغباء» وضعها ديل تورو في شخص الضابط «الوسيم»، الذي يحاول إقناع الجنرال هويت بالتخلص من الكائن البرمائي، عبر تشريحه والاستفادة منه علمياً، وهدفه الانتقام لا التطور العلمي. لا شك أن الإخراج والقصة والإضاءة والألوان والأداء حتى الأداء الصامت والموسيقى.. كلها عوامل أدت إلى نجاح «شكل الماء». لغة الإشارة التي سمحت بتلاقي روحي البطلين، أوصلت الكثير من الرسائل الإنسانية والمشاعر الصادقة إلى الجمهور. قصة حب تحكي عن التواصل بين البشر، أهمية الرحمة والتعاطف، والمساواة بين الجميع. إليزا التي تعاني سوء تقدير الآخرين لها بسبب قلة جمالها ومهنتها المتواضعة وعجزها عن النطق، وجدت في المخلوق العجيب كائناً مختلفاً، لا يرى فيها كل تلك «العيوب» أو «النواقص»، مثلها يحتاج إلى الحنان، وإلى من يفهمه ويتفاعل معه، ويحسن معاملته. ومثلها، خائف لا يشعر بالأمان رغم ضخامة بنيانه، يرفض العنف ويبحث عن السكينة.في تلك النقاط يصل ديل تورو إلى قمة رسالته الإنسانية، وقمة المشاعر، مطلقاً سهامه مباشرة إلى قلوب المشاهدين ليكسب تعاطفهم مع قصته ومع أبطاله. ولم ينس أيضاً أن يتقن الصناعة السينمائية، ليخدم قضيته، ويحقق النجاح ويكسب أصوات النقاد وصناع السينما عالمياً. من مميزات المخرج المكسيكي أنه يهتم بكل التفاصيل، من إضاءة وألوان، خصوصاً اعتماده على اللون الأخضر ليشعر المشاهد بأنه يغوص في عمق المياه، وعمق النفس البشرية أيضاً. ولا تسقط منه الإكسسوارات والملابس.. كما يتميز بمزجه بين ضعف بطلته وقوتها، بين خوفها وجرأتها، وبين هشاشتها وتجاهلها من قبل الآخرين، وبين قدرتها على اختراق الممنوع والوقوف في وجه المخطط، وتحدي «العنصرية». اللقاء في ذروته يلتقي «شكل الماء» مع كثير من أفلام الفانتازيا والخيال العلمي وحتى الكرتون الرومانسي؛ من حيث تناوله علاقة «إنسانية» عاطفية بين مخلوق عجيب وإنسان عادي. وفي بعض المشاهد خصوصاً عند اللقاء الأول بين إليزا والبرمائي، ولحظة اللقاء العاطفي في ذروته، نتذكر أفلام مثل «أفاتار» لجيمس كاميرون (2009)؛ حيث الكائنات التي تحمل رأس وذيل حيوان بجسد إنسان عملاق، و«كينغ كونغ» (2005) للمخرج بيتر جاكسون، واللقاء الرائع بين «إي تي» والطفل إليوت في أحد أجمل أفلام ستيفن سبيلبرغ (1982) والكاتبة ميليسا ماتيسون، التي قدمت سابقاً سيناريو «ذا بلاك ستاليون» (1979) إخراج كارول بالارد. و«المخلوق من البحيرة السوداء» (1954) للمخرج جاك أرنولد، قصة موريس زيم. «الوحش» بلا «الجميلة» من مميزات الفيلم أنه كسر القوالب السابقة لكل تلك النوعية من الأفلام، حيث تخلى عن معايير الجمال في بطلته. وهو إذ يذكرنا قليلاً بفيلم «الجميلة والوحش» لوالت ديزني، سواء النسخة الكرتونية التي صدرت عام 1991، أو الحديثة المجسدة بكائنات بشرية عام 2017، إلا أنه اختار أن يسقط كل معايير الجمال الخارجي من حساباته، فتقف مقابل الوحش بطلة عادية، بلا ملامح ساحرة أو جذابة. ويعتبر هذا الرهان صعباً وفيه قدر من المجازفة، يعتمد كلياً على أداء الممثلين والإبداع الفني لجذب الجمهور، وقد ربح غييرمو ديل تورو الرهان. marlynsalloum@gmail.com
مشاركة :