آثار التاريخ لا يمكن تطويقها وحصرها بقبور جماعية لمقتنيات ماضي البشرية المدفون تحت الأرض بزوال المدن العامرة نتيجة الكوارث الطبيعية أو الأوبئة أو الحروب؛ رغم أنها كنوز اعتبارية ومادية تشقى المتاحف العالمية للحصول عليها، أما الآثار الظاهرة كأطلال فقد تحوّلت إلى مصدر للدخول القومية في معظم الدول التي نمت فوق ترابها الحضارات القديمة. لكن تصمد حقيقة أن الإنسان هو أعظم تلك الآثار الداعمة لتواصل الحياة، وهو الشاهد الحيّ المتبقي أو الراوي لقصة لا تستسلم للوثائق الرسمية أو الأختام لتؤكد انتماءها النوعي للمكان وسلالاته التي أنتجت عائلة متجانسة ضامنة للبقاء، كعائلة العراق التي تجاوزت المحن حتى مع تعدّد الأعراق واختلاف الثقافات والأديان والقوميات والطقوس وأسلوب العيش. لأن ما وصلنا من قديمها وبعضها من قديم الأزل ينمّ عن مكتسبات خبرة في فن التفاهم وعدم التفريط بالحدود المتوسطة المتكفلة بنجاة المجموعات من الاستسلام للتغييرات السكانية الإجبارية. أخطر أعراض أوبئة الديموغرافيا غير الترحيل القسري الشامل بحكم الكوارث، ما يجري في الحروب بين الدول والاضطرار إلى الهجرة لتلافي المآسي المتوقعة عند دخول الجيوش؛ لكن ما هو أخطر منها يقع في نطاق منهجية التغيير الديموغرافي والتخطيط لها بأسلوب الحروب الأهلية ومشاكسات الكراهية المقبولة في تجزئتها وتنويعها لبرامج جرائمها وغدرها واحتيالها، إلى يوم جرد الحساب الذي تتكشف فيه أهوال التغيير المتعمد في تركيبة مجتمع قاوم لقرون بل للآلاف من السنين حفاظا على ممتلكاته ومقومات تكوينه وتصميمه النفسي الخاص. ارتكابات تنظيم الدولة الإسلامية ضد الآثار والمعالم الراسخة في وجدان سكان الموصل، وما تلاها من تدمير أثناء الحرب على التنظيم، لا يقترب أبدا من حجم الخسائر بين المدنيين وهول ما يتم اقتباسه من المشروع الإيراني الطائفي لتنفيذه عملياً وبإجراءات وخطوات مدروسة في نسغ صاعد – نازل من أعلى السلطات التشريعية والتنفيذية في العراق إلى أدنى فصيل مسلح من ميليشيات الحشد التابعة إلى فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. إجراءات حصر السلاح بيد الدولة تأتي لحماية المواطنين وفرض سلطتها؛ هكذا يقول حيدر العبادي رئيس وزراء العراق والقائد العام للقوات المسلحة بعد مرور ما يقارب سنة ونصف السنة على تشريع قانون هيئة الحشد في برلمان العراق، وكأن العبادي يعترف أن السلاح طيلة المدة الماضية لم يكن تحت إمرته كما كان يردد دائماً مع الأحزاب الطائفية تأكيداً على سلامة تطبيق التكييف القانوني باعتبار الحشد جزءا من القوات المسلحة وهو مقيد بصلاحياته بتوجيهات رئيس الوزراء، أي إن السلاح كان حصراً بيد الميليشيات الطائفية المكيّفة باصطلاح حشد فتوى المرجعية المذهبية والذي تم تكييفه في ما بعد بهيئة الحشد الشعبي. حيدر العبادي في إعلانه المعاد عن دمج الميليشيات بالقوات النظامية يؤدي دور الدمية في فن الكلام من البطن والباطن اعتقادا وظنا منه أنه صاحب الصوت وصاحب القرار. ثمة إنسان يرحل من بلاد الرافدين ويترك مكانه شاغراً لتحتله حفنة من الميليشيات وتجار الحروب. دمج الميليشيات بالجيش أو بالقوات النظامية والأجهزة الأمنية حصل حتى قبل فتوى المرجعية المذهبية، وإلا كيف يمكن تفسير تلك المؤتمرات والاستعراضات المسلحة للفصائل وكميات ونوعيات الأسلحة وما تكلفت به من واجبات وعمليات تندرج تحت صلب مهمات المافيات والعصابات الخارجة عن القانون، وبعضها استهدف اختطاف شخصيات لصالح مساومات دولية مع إيران ساهمت في تفاهمات إيداع العراق في حساب ولاية الفقيه ونهاية لعبة جر حبل الاتفاق النووي. كل هذا جرى تحت مرأى ومسمع برلمان وحكومة عراق منتخبين بنظام ديمقراطي. الجديد في طروحات الدمج يختفي في قرب أداء امتحان الانتخابات تحت تلويح عصا المرشد خامنئي الذي لم يتوانَ عن رفع إنذاراته بإشهار سكاكين مطبخه في عملية ذبح حلال لخصوم مشروع تنظيم دولته الإسلامية في العراق؛ وهؤلاء الخصوم هم مجرد أحزاب أو توجهات تتنافس على مقاعد برلمانية في بلد يبرر المرشد التدخل في شؤونه، بل وشؤون المنطقة على طريقة ليس لأحد حق الاعتراض على ما يجري داخل البيت الإيراني. دمج الميليشيات بالجيش تخدير موضعي بسلاح ذي حدين؛ سلاح يحز كرسي الدورة الثانية لرئاسة العبادي، وآخر يتجه لتدعيم حظوظه فيها. وفي الحالتين الجهة المنكوبة هي شعب العراق. سلاح الميليشيات هو الرهان، ففي حالة امتلاكها لما تمتلكه القوات النظامية يكون الجيش ميليشياويا بامتياز لكن بغطاء الانضباط للمهنية والاحترافية التي تم التقديم لها بقبول من يرغب بالدراسة من الحشد في الكليات والمعاهد العسكرية، بما يعني في الحقيقة دمج الجيش بعقيدة الحشد، وهو المطلوب والمدعوم من القوى الطائفية ومن معظم الجهات الساندة التي وثقت لفجر الميليشيات الإيرانية في المنطقة. هل هناك ميليشيات أخرى خارج جيش الحشد؟ الجواب نعم لحاجتهم إلى فوهات بنادق مصوبة إلى شعب العراق وقواها الرافضة للمشروع الإيراني، وأيضاً إلى الأمة العربية والقوى الدولية المتقاطعة بوجودها مع ولاية الفقيه، وكذلك الهدف حكومة العراق ذاتها إن تمردت ولو في لحظة انسجام شخصي مع رأي مستقل أو مزاج كرامة مؤقتة. جيش العراق رغم تعرضه لتغيير ديموغرافي صريح في المعنى، استبدل تاريخه الوطني والعربي بقوات نظامية حاولت بتعثر أن تداري على شمعة الاحتراف والمهنية رغم خروقات المحاصصة وغياب الكثير من مفاهيم العسكرية وسماتها بمجاهل الرايات المذهبية التي بدأت بحقل التقسيم الطائفي في استمارة التطوع لبناء جيش ما بعد الاحتلال الأميركي. الفقر والبطالة يأتيان في مقدمة أسباب التطوع في القوات النظامية، زاد عليها الدمج الميليشياوي أعدادها الغفيرة ليتحول الجيش إلى بطالة مقنعة على هيئة الفضائيين الذين ليس لهم وجود سوى في قوائم الرواتب، لكن في حالة الدمج بالقوات النظامية يترشح واقع جديد لفضاء رسمي يستنزف أموال العراق بمثقب الخوف من تغول الميليشيات. التخلص من البطالة بالتشغيل في الحروب والأزمات هو تغيير ديموغرافي بانزياحات مالية وإحصائية في مفارقة تعداد السكان الطائفي في عراق ما بعد 2003 الذي ازداد فيه تعداد السكان من حدود 25 مليون إلى ما يقترب من 40 مليون نسمة، وبأسهم تتجه إلى تقرير مصير العراق عند حدود التفكر بعمق بعدد الذين غادروا العراق ومن تناوشتهم الأزمات بالقتل والخوف وفقدان الأمن لصالح من يقف وراءها. حيدر العبادي في إعلانه المعاد عن دمج الميليشيات بالقوات النظامية يؤدي دور الدمية في فن الكلام من البطن والباطن اعتقادا وظنا منه أنه صاحب الصوت وصاحب القرار. ثمة إنسان يرحل من بلاد الرافدين ويترك مكانه شاغراً لتحتله حفنة من الميليشيات وتجار الحروب.
مشاركة :