لا يختلف كثير من المراقبين للشأن السوري على أن إيران تلعب دورا مهما للغاية في إحداث عملية التغيير الديموغرافي داخل الأراضي الخاضعة لسيطرة نظام بشار الأسد عبر استغلال الظروف المعيشية القاهرة لسكان تلك المناطق وتحديدا شرق البلاد، في محاولة لتغيير ملامح الدولة وشكلها، في ظل الدعم المالي، الذي ترسله طهران لحليفها في دمشق. دير الزور (سوريا) - سعت إيران طيلة السنوات الماضية إلى تأسيس قاعدة سياسية وعسكرية لها في العديد من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لتكون أداة لتمرير وتنفيذ مخططاتها وداعما لها عند الحاجة ومنفذا تتنفس من خلاله ذراعها الرئيسية حزب الله وتوظّف أموالها. ويؤكّد الخبراء السياسيون أن إيران هي التي تُسير التشيع وفق غاياتها السياسية، وذلك عكس ما تسوقه في تبريراتها للتدخل في شؤون الدول بأنه يأتي لحماية المزارات المقدّسة والأقليات الشيعية، غير أن الأمر تجاوز ذلك الحدّ في سوريا، التي تعيش في فوضى لا حدود لها. وتكشف أحدث تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان أن الميليشيات الإيرانية تواصل في منطقة غرب الفرات، وتحديدا في محافظة دير الزور بث سموم التشييع عبر تغيير أسماء شوارع باللغتين العربية والفارسية، وإطلاق اسم الخميني، على شوارع بمدينة الميادين على الحدود مع العراق، في تأكيد على إصرارها على إحداث تغيير ديموغرافي ومذهبي في سوريا. وقام الحرس الثوري خلال السنوات الماضية بعمليات تجنيد ممنهجة لصالح القوات الإيرانية وحزب الله اللبناني، عبر عرّابين تابعين لطهران مقابل سخاء مادي، على غرار ما تقوم به أنقرة من تجنيد لفصائل سورية إسلامية متطرفة تابعة لها، فيما تتواصل عمليات التتريك الواسعة التي تشهدها مناطق الشمال السوري. ولا يخفى وجود أجندات بعيدة المدى للتدخل الإيراني في الساحة السورية، فإلى جانب إنقاذ حليفها الأسد، تسعى إيران لمدّ خط رابط بينها وبين بيروت حيث يسيطر أحد أبرز وكلائها حزب الله، فضلا عن فتح نافذة على البحر المتوسط. ويكمن نفوذ إيران في مدينة البوكمال على طول الحدود السورية العراقية، باعتبارها الحلقة الأهم في ممرِّ إيران البري إلى لبنان والبحر المتوسط عبر سوريا والعراق، الأمر الذي يثير قلقا استراتيجيا للدول المهتمة بما يحدث في سوريا. يثير وجود قوات إيرانية وميليشيات موالية لها في سوريا قلق الولايات المتحدة وإسرائيل، التي كثفت في الأشهر الأخيرة غاراتها الجوية على مواقع لإيران لاسيما في جنوب سوريا وشرقها بالقرب من الحدود العراقية. وتعد إيران الحليف الإقليمي الرئيسي لدمشق، وقدمت لها منذ بدء النزاع في العام 2011 دعما سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وقد بادرت طهران في العام 2011 إلى فتح خط ائتماني لتأمين احتياجات سوريا من النفط بشكل خاص، قبل أن ترسل مستشارين عسكريين ومقاتلين لدعم الجيش السوري في معاركه. ولذلك، ومن هذا المنطلق لا يستغرب المتابعون أن تقدم إيران على فعل كل شيء من أجل ترسيخ أقدامها في سوريا خاصة وأنها أبرمت في يوليو الماضي، اتفاقا عسكريا مع نظام الأسد، هو الثاني في غضون عامين، يستهدف تعزيز قدرات الدفاعات الجوية للقوات السورية، فيما بدا ردا من طهران على الضغوط السياسية والعسكرية، التي تتعرض لها لسحب قواتها والميليشيات الموالية لها من سوريا. وفي دير الزور يظهر أبرز رجال النظام الإيراني بسوريا عبدالمجيد السراوي، المرتبط بعلاقات وثيقة مع الحرس الثوري والميليشيات الشيعية، وهو الذي تعول عليه طهران، بحسب مراقبين، في تحويل المحافظة إلى مدينة شيعية موالية للمرشد الأعلى علي خامنئي. ويعتبر متابعون أن السراوي، الذي زاول تدريس المذهب الشيعي في الحوزة الحيدرية، أو حوزة الإمام في السيدة زينب بدمشق، وهي تحظى بدعم من قبل إيران، يعد محركا أساسيا في هذه العملية. وفي أحدث ما قام به السراوي ذراع إيران في دير الزور، بحسب ما وثقه المرصد السوري لحقوق الإنسان، هو مساعدته الميليشيات الإيرانية حتى تقوم بتغيير اسم شارع “أنس بن مالك” ووضعت لافتة كتب عليها باللغة العربية والفارسية شارع “الإمام الخميني”. كما أدخلت تغييرا على شارع “الجيش” ووضعت لافتة كبيرة كتب عليها شارع “الإمام العباس” باللغة العربية والفارسية في إشارة منها للواء العباس التابع لها المتواجد في المدينة. كما قامت الميليشيات الإيرانية بتغيير اسم شارع “أبوغروب” ووضعت لافتة كتب عليها باللغة الفارسية والعربية شارع “الشهيد قاسم سليماني”، الذي قتل بغارة جوية أثناء تواجده في مطار بغداد في يناير الماضي، وقامت أيضا بوضع لافتة على شارع “ساقية الري” كتب عليها باللغة الفارسية والعربية شارع “فاطميون”. ويبدو أن هذه الأعمال المستمرة منذ أشهر لا تجد من يعارضها من سكان محافظة دير الزور لاسيما وأنهم يعيشون تحت مطرقة الظروف المعيشية القاسية بسبب العقوبات الغربية على دمشق. وقد زاد قانون قيصر الذي أصدره الرئيس دونالد ترامب الصيف الماضي من تأزيم الوضع أكثر. ويقود الحرس الثوري الإيراني في دير الزور طيفا متنوعا من الميليشيات التي تعمل على تحقيق أهدافه العسكرية في حماية منطقة نفوذه ومن خلال تجنيد شبّان محليين في صفوف تلك الأذرع، يلبّي حاجته من المقاتلين، ويكون بذلك قد صنع أتباعا جددا يستخدمهم في المستقبل. ومن بين الميليشيات التابعة للحرس الثوري، تلك المعروفة باسم اللواء 47 حرس، وهي نموذج من حيث خضوعها لقيادة إيرانية مباشرة، عبر ضابط من الحرس الثوري يُلقَّب بالحاج سلمان. ويقول المرصد إن ميليشيات إيران تعمد إلى تكثيف عمليات التجنيد هذه في استغلال كامل منها لانشغال الروس بالاتفاقات مع الضامن التركي في الشمال السوري. فرصة نادرة إيران تريد كسب ولاء المناطق السورية حتى تمدّ رابطا بينها وبين لبنان، حيث أبرز وكلائها حزب الله، لفتح نافذة في المتوسط إيران تريد كسب ولاء المناطق السورية حتى تمدّ رابطا بينها وبين لبنان، حيث أبرز وكلائها حزب الله، لفتح نافذة في المتوسط لم يستغل النظام السوري الفرصة النادرة التي منحت له في أبريل الماضي للعودة إلى البيت العربي مرة أخرى بعد تصاعد أصوات من دول وازنة في الشرق الأوسط وأخرى دولية لتقديم المزيد من الإغراءات لدمشق من بوابة الدعم الاقتصادي والإنساني لتبتعد عن فلك إيران. وترى الكثير من الدول العربية المحورية كالسعودية ومصر والإمارات، أنه بينما نجح نظام الأسد في التصدي للتوغل التركي بدعم روسي لكنه لا يزال يوثق علاقاته مع طهران في شتى المجالات رغم الضغوط التي مورست عليه حتى يقلص من النفوذ الإيراني. وبينما تتصاعد الدعوات في كل مرة لرفع العقوبات المفروضة على النظام السوري، ولو مؤقتا، فإن أصواتا عربية تدعو بشار الأسد إلى التطبيع السياسي عبر العودة إلى الجامعة العربية بشكل خاص وإبداء حسن النية للمشاركة في القمة العربية المقبلة. وتشترط تلك الدول وضع حدّ لأعمال التشيُّع التي ما زالت تقوم بها إيران في أرجاء البلد من شماله إلى جنوبه، في الوقت الذي فتح فيه تقدّمُ الجيش السوري شمال غرب البلاد ضدّ الفصائل المسلحة التي تدعمها تركيا، في فبراير ومارس الماضيين، وقصف ومحاصرة العديد من النقاط التركية في سوريا، نافذة واسعة لتقرّب النظام السوري من مُحيطه العربي. وحتى الآن لا توجد أي تحركات سورية ملموسة للعودة إلى الحضن العربي، خاصة وأن هذا الأمر لو حصل سيعمل على تغيير المعادلة الاستراتيجية والجغرافية للعديد من الدول. وهذا الأمر يخضع لعدة أبعاد وفي ضوئها تتشكل العلاقات بين المحاور. وهنا لا تجد سوريا حرجا في مواصلة ربط مصيرها بإيران. وهناك شواهد تاريخية على ذلك منذ بدء الأزمة السورية، وكان من بينها ما جرى في صيف العام 2018، حينما وقع البلدان اتفاق تعاون عسكريا ينص على تقديم طهران الدعم لإعادة بناء الجيش السوري والصناعات الدفاعية. كما وقعا اتفاق تعاون اقتصاديا “طويل الأمد” شمل قطاعات عدة أبرزها النفط والطاقة الكهربائية والقطاع المصرفي.
مشاركة :