رغبويا على الأقل، لن يتقبل جمهور الثورة السورية الأولى أن ينتهي تحركهم الاحتجاجي الذي بدأ في مارس 2011 بهزيمة صريحة، لتحلّ محل ذلك فكرة أن ثورة ثانية وربما ثالثة، ستحقق انتصار فكرة الثورة الأولى بزوال الاستبداد، وعودة سوريا إلى السوريين، ليختاروا في النهاية شكل حكم بلدهم في دستور عصري ينصّ على علاقة السوريين مع بعضهم، وعلى علاقة الحاكم بالمحكوم، وواجبات الحاكم، وامتيازات المحكومين. دليلهم إلى ذلك ليس فقط الثورة الفرنسية التي تخللتها عهود دكتاتورية وإمبراطورية وجمهورية لا تقل سوءاً عن حكم سلالة آل بوربون، ورأسهم لويس السادس عشر، على الرغم من الانتصار السريع للموجة الأولى للثورة الفرنسية، بل معكوس ثورات الربيع العربي كمؤشر على ذلك، حيث يبدو الآن أن ثورتين مضادتين انتصرتا على الثورة في تونس ومصر. أما في العمق، فإن الثورة الثانية لن تتأخر كثيرا في كل من تونس ومصر، وستظهر هذه المرة معززة بوعي استوعب التجربة، وليس مجرد “انتفاضة” محقة كما حدث في كل دول الربيع العربي. وبين الرغبوية والواقع، قد لا نجد فرقا على المدى المتوسط والطويل، فثماني سنوات ليس عمرا زمنيا مديدا، كما أن سبعين سنة قبل حلول عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة لم يكن عمراً مديداً. هذا على الرغم من الفرق الحضاري بين الواقع السوري والعربي، والواقع الأوروبي والفرنسي، إضافة إلى فرق الزمان، وطبيعة المجتمع الفرنسي وقتها، مقارنة بالمجتمع السوري، والعربي، الآن. وقد يبدو أن الفروق لصالح الآن السوري، فعلى الرغم من تخلف المجتمع السوري والعربي، الآن، فهو ربما أكثر تقدما من واقع فرنسا أيام ثورتها في مراحلها المختلفة، حتى لو ذكّرنا أحدهم بعصر نابليون، وفتوحاته الأوروبية، وغزوه للمشرق العربي. وتدعم رغبويتنا هذه، التي تكاد تكون رغبة كبيرة، وإن لم تكن جامعة، نظرا إلى صعود التشاؤم السوري منذ بداية عام 2017، حالة التحدي التي يعيشها السوريون وحالة رفض الهزيمة، نفسياً على الأقل. والأهم من ذلك أن مجموع الخسارات نفسها يدعم حالة التحدي هذه. الخسارات الذي تفوق في مستواها حتى رقم 511 ألف قتيل (في أقل التقديرات) من جميع الأطراف المتحاربة، حيث قتل 85 في المئة منهم النظام الأسدي. وإذا تقول الأرقام المقدرة أن ما لا يقل عن 13 مليون سوري يعيشون خارج مدنهم، منهم حوالي ثمانية مليون نازح داخل سوريا، وأكثر من خمسة ملايين خارج سوريا، كلاجئين ومشردين، فإن تقديرات المآسي التي يعيش هؤلاء تفاصيلها لا تحيط بها الأرقام وحدها، فكل فرد وعائلة، من هؤلاء قصة كاملة بتفاصيل استثنائية من المآسي. بين الرغبوية والواقع، قد لا نجد فرقا على المدى المتوسط والطويل، فثماني سنوات ليس عمرا زمنيا مديدا، كما أن سبعين سنة قبل حلول عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة لم يكن عمراً مديداً وعلى سبيل المثال، هنالك ما لا يقل عن 750 ألف معاق، ممن فقدوا طرفا أو أكثر، أو مصابون بنوع من الشلل النصفي أو الكامل. وكل من هؤلاء يحتاج لشخص واحد على الأقل لمساعدته في حياته اليومية، ومتابعة علاجه ودوائه وإعالته. ما يعني أن مليون ونصف المليون في حالة عطالة إنتاجية، والاستثناءات من هذا الافتراض تبقى قليلة نسبيا. قبل كل ذلك، تذكّرنا تقارير إعلامية وحقوقية وبشكل متكرر، أن خمسة ملايين طفل سوري خارج أي دراسة منتظمة منذ ست سنوات على الأقل. وفي كثير من المناطق التي لم تنقطع فيها الدراسة كليا، تراجع مستوى التعليم كثيرا، نسبة إلى الوضع التعليمي الذي لم يكن مثاليا قبل عام 2011. وبحسابات الأرقام، خسر خمسة ملايين طالب خلال ست سنوات ما مجموعه 30 مليون سنة دراسية. وهذه أكبر خسائر سوريا بالمطلق، حتى دون أن نضخم الأرقام بحساب عدد الأيام الدراسية الضائعة. لكن تلك الأرقام تتشعب عند بحث آثار ذلك على عمالة الأطفال، وتراجع الإشراف العائلي على الأطفال والمراهقين في ظل تنقلهم المفاجئ بين بيئات مختلفة خلال النزوح واللجوء، وتشتت انتباههم عند اصطدامهم بثقافات اجتماعية مختلفة، ومخاطر الجنوح اللانهائية التي يتعرضون لها. وكل تلك الخسارات ستشكل جزءاً مهماً من الوعي بالثورة باستخلاص دروس الحاضر، وبوعي مواز لوقائع “المؤامرة الكونية” على سوريا، وليس على النظام الأسدي. فهذا الاصطلاح عند بشار الأسد وإعلامه يطابق بين آل الأسد وسوريا، تعبيرا عن ابتلاعهم الدولة والمجتمع، ثم الاقتصاد والجغرافيا، مع رغبة شديدة بابتلاع تاريخ سوريا الذي يمتد إلى أكثر من 12 ألف عام مضت. أما المؤامرة الكونية التي تغذي رغبة سوريين بالتبشير بالثورة الثانية فكانت المحاولة الدولية الناجحة لإجهاض الثورة الأولى، حيث عطلت كل جهد سياسي أو عسكري، بذله سوريون لإتمام ثورتهم، بغض النظر عن حالة الإفساد التي لعبها المال العربي والدولي في سبيل ذلك، كونه تفصيلا من تفاصيل إحجام المجتمع الدولي عن تقديم دعم جاد للثورة في سبيل إنجاحها. وهذا الإحجام في حقيقته هو إرادة دولية، وإقليمية، كانت فاعلة، ولا تحتاج اليوم إلى دليل لإثبات حدوثها بعد اختبار عمره سبع سنوات كاملة. عاطفياً، نظر جمهور الثورة إلى ثورتهم كموضوع، وكحالة تامة من وعي الذات تكاد تقول إن الثورة تكتب نفسها، وتجد الحلول للمؤمنين بها وكأنها يقين يشبه حالة الإيمان في الأديان والمعتقدات. ولا يزال كثير من الفاعلين في الثورة الأولى يتحدثون عن الثورة كـ”فرد” عاقل، وكمنجز مستقل بذاته، على الرغم من اتفاق هذا الجمهور أن لا أدبيات لهذه الثورة، ولا منظرين أو قادة. لكن الواقع يقول إن ذلك غير حقيقي، حتى بعد سبع سنوات من لحظة انتفاض السوريين، فلا ملامح لقادة، أو قائد، ولا وجود لأي أدبيات، أو مانيفستو. وهو شيء طبيعي، فلا توجد ثورة سابقة تمتعت بهذه الصفات، بما في ذلك الثورتان الفرنسية والبلشفية، على الرغم من وجود شخصية لينين، وأدبه، في الثورة الروسية، والمصلحين الفرنسيين والأوروبيين الذين كتبوا أدبيات قبل الثورة الفرنسية وفي أثنائها، لكن الناس ثاروا على طريقتهم هناك، وفي الحالتين لم يتطابق المنتج مع مآلات الثورتين. ففي الثورة الروسية، مثلا، لو امتلك الإمبراطور نيقولا الثاني كاريزما القائد لعاد الشعب الروسي إلى الركوع وتخلّى عن البلاشفة المنظمين والمحرضين على الثورة. المؤكد أن الثورات العربية على الدكتاتوريات كانت كلها انتفاضات محقة، لكنها كانت عاطفية أكثر منها سياسية، حتى باعتبار أن المطالبة بالخبز والكرامة هو مطلب سياسي. والمؤكد التالي أنها شكلت بداية كان في مضمون مطالبها الحقوق الدستورية، وأولها حق المواطنة، وحق محاسبة الحاكم، وتداول السلطة وفق نظام انتخابي يتيح مبدأ تكافؤ الفرص، وليس توريث إقطاعات سياسية وعائلية. وفي المقدمة من ذلك كانت الثورة السورية المستحيلة، لكن الممكنة مستقبلاً.
مشاركة :