العرب ومعضلة بناء الدولة الحديثة بقلم الكاتب / ا.د رشود الخريف إن بناء الدولة الحديثة يتطلب الانتماء للوطن بجميع مكوناته، وليس لجماعات أو فئات أو طوائف معينة، ولكن الانتماء يتطلب بناء الدولة على أسس صحيحة تكفل الحقوق وتضمن الواجبات. من خلال متابعة مجريات الأحداث التي تمر بها الدول العربية يستطيع الإنسان التوصل بسهولة إلى نتيجة مفادها أن معظم القيادات والحكومات العربية وحتى المعارضة التي أفرزتها الثورات والربيع العربي لم تستطع التخلص من الترسبات الثقافية، والتجارب القمعية السابقة، والممارسات الإقصائية المتأصلة في الفكر العربي، والمصالح الشخصية، والنظرة الضيقة المبنية لا على دراسات دقيقة، بل انطباعات غير موضوعية، وأهم من ذلك عدم التخلص من الانتماء الحزبي أو السياسي. ويعزز ذلك كله أن العقل العربي في أعماقه لا يزال تواقا لتقديس الأشخاص دون المؤسسات! أول مقومات بناء الدولة الاتفاق على دستور يحفظ الحقوق والواجبات، ويضمن العدل والمساواة بين الأفراد ناهيك عن الفئات والطوائف، فالكل سواسية أمام القانون، ليس هناك وصاية ولا استعلاء. ولا يكفي الدستور لوحده، بل الرغبة والقدرة على تطبيقه بدقة، بعيداً عن الأهواء الشخصية والمصالحة الحزبية! فعلى أهمية الموارد الطبيعية والوسائل التقنية المادية التي يمتلكها المجتمع، يبقى وجود دستور أو تشريعات تحمي المجتمع بأفراد وجميع مكونات الشرط الأول لبناء الدولة. ولن يتحقق ذلك إلا من خلال الفصل بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. ويأتي بعد ذلك القدرة على إحداث تنمية بشرية واقتصادية تهدف لبناء الإنسان واستغلال الموارد بشكل يكفل الرخاء والاستدامة، وهو ما لم تستطع كثير من الدول العربية إحداثه حتى الآن!. إن ضمان المشاركة العادلة والمواطنة المتساوية والتنمية الفاعلة يؤدي بالتأكيد إلى الانتماء الوطني وينمي هوية وطنية مرتبطة بتراب الوطن وإنسانه وتراثه. لا أدري لماذا يتخبط العرب ويضيعون الوقت، ويثيرون العداوة والبغضاء، ويريقون الدماء دون الاتفاق على صيغة مناسبة لبناء الوطن وإقرار الحقوق وتوطين الأمن والاستقرار؟! هل العقل العربي بمكوناته الثقافية والدينية والاجتماعية في حاجة لمزيد من الدراسة لسبر أعماقه وفهم العوائق التي تمنعه من الاستفادة من تجارب الآخرين والوصول لصيغة عملية كسائر أمم الأرض؟! ولن نتجرأ بهذا القول، وقد حظي العقل العربي بدراسات كثيرة لم يحظ بها عقل آخر في الشرق أو الغرب؟! كتب كثيرة عن العقل العربي ونقد العقل العربي تملأ أرفف المكتبات. من التجارب المؤلمة التي تدلل على صدق ما أشرت إليه ما حدث في العراق. فقد استبشر العراقيون ومعهم العرب والناس أجمعين عندما تخلص العراق من نظام صدام، ليستفيقوا (بعد زوال الفرحة وحضور الفكرة) على حكومات أبعد ما تكون عن مفهوم الوطنية الحقيقة، فهي إما تابعة للمحتل أو موغلة في الطائفية نتيجة الاعتماد على مبدأ المحاصصة الطائفية، بدلاً من التركيز على مبادئ بناء الوطن على الرغم من إقرار دستور للبلاد. وبدأت مصر بعد ثورتها وخلاصها من نظام مبارك بانتخابات حرة ونزيهة تحمل أحلام المصريين في دولة مدنية ديمقراطية تضمن لهم بعد الله العيش بكرامة، وجاءت الانتخابات بالإخوان إلى سدة الحكم بعد طول انتظار، فلم يحسنوا ممارسة السلطة من جهة، ولم يُمنحوا الفرصة لإثبات أنفسهم من جهة أخرى، وجاءت المفاجأة بالاعلان الدستوري، الذي أثار ثائرة المصريين الذين لا يريدون سوى الحرية والعيش الكريم بعيداً على الاستبداد الذي تجرعوا الكثير من سمومه. وقبلها تونس التي لم تستطيع بناء مؤسسات الدولة والانطلاق لصنع مستقبل مشرق للشعب التونسي دون منغصات، لعلها تزول وينعم الشعب التونسي بحرية التفكير وحرية العبادة التي حرموا منها عقودا، وكذلك حرية المشاركة والمواطنة والانتماء. وقبل ذلك كله كان الأمل كبيراً في أن يصنع الفلسطينيون نظاماً ديمقراطياً يقوم على تبادل السلطة وانتقالها بسلاسة وفق دستور عادل يضمن العدالة ويحقق أهداف الفلسطينين وآمالهم في دولة مستقلة، ولكن تجربتهم لم تكن أفضل من غيرها، إن لم تكن الأسوأ. ومن المتوقع أن تدخل السودان معترك الربيع العربي بعدما كان الإقصاء وعدم وجود دولة مدنية تكفل العدالة والمساوة سبباً في انسلاخ الجنوب عنها. وما دمنا نتحدث عن الانسلاخ، يبرز التساؤل في أذهان الكثيرين: لماذا تنسلخ الحكومات العربية كثيراً عن شعوبها وتعيش بعيدة عن الشارع وهمومه؟! فبمجرد أن يصل رئيس عربي لسدة الحكم، ينسى الشارع وهمومه ويفكر في ديمومة الكرسي أولاً ثم ثانياً وثالثاً، ويأتي بعد ذلك الشعب. أخيراً أرجو ألا تنشغل الحكومات ومعها الشارع بأمور بسيطة وتافهة وتتجاهل الأمور الجوهرية التي تصنع الدولة الحديثة وتحقق أحلام الشعوب العربية بالعدالة والحرية والمساواة والحياة الكريمة. فاحترام نتيجة الانتخابات الحرة النزيهة أمر أساس، ويقابله الإيمان قولاً وعملاً بأن الفوز بالانتخابات لا يعني الاستبداد، بل بداية بناء الدولة الحديثة!.
مشاركة :