طابعه الوثائقي هو ما دفع نقادا كثيرين لعدم الاعتداد به ككتابة أدبية رصينة، على اعتبار أن كاتبه لا يبذل جهداً لأنه يأخذ مادة الرواية جاهزة من ملفات المخابرات التي ترصد العمليات الجاسوسية وبأسماء أبطالها الحقيقيين، وبالتالي فهي تفتقر إلى عنصر الخيال. لكن عادل نيل في كتابه (الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة) لا يرى في ذلك أي إنتقاص من أدبية تلك الكتابة؛ "إذ تلتقي الرواية المخابراتية مع اتجاهات روائية أخرى تأتي في مقدمتها الرواية التاريخية استنادًا إلى أنها تسجيل لأحداث ووقائع التاريخ، كما تتلاقى مع الرواية السياسية في بعض الأحداث التي تصوّر حركات التحرر والصراع مع قوى الاستعمار. كما أن جانبًا منها يلتقي مع الاتجاه العاطفي في تصويرها لجوانب إنسانية من حياة أبطال الرواية". كذلك يعكس الأدب المخابراتي جانبا إنسانيا مهما، وهو الصراع الأبدي بين الخير والشر، حيث الجاسوسية إحدى أحدث وسائله، ويدعم الكاتب رأيه بمقولة للكاتب الأبرز عربيا لهذا النوع الروائي صالح مرسي "فالأدب أدب مهما تنوعت مادته، الجديد علينا فقط هو أن الجاسوسية باعتبارها نوعا من النشاط الإنساني أصبحت واحدة من ملامح العصر الحديث. والمعيار في النهاية يرتبط بفنيات البناء وصدق التعبير عن القضية المطروحة بما يضمن انفعال القارىء، ويمكن أهداف النص الأدبي في وجدانه". • مواجهة أدبية يذهب الكتاب إلى أن الرواية المخابراتية تكتسب أهميتها من كونها رواية قضية، حيث تسعى إلى تصوير "الصراع الدائر بين المجتمعات الإنسانية الذي يعد ركنًا أساسيًّا في بناء أحداثها، وهو صراع يتشكل من بواعث عدة، كحفاظ تلك المجتمعات على أمنها، ودرء المخاطر التي تهددها، وحماية مصالحها المشروعة، أو رغبة بعض القوى الاستعمارية في فرض الهيمنة والاستحواذ وتحقيق مطامعها التوسعية، أو التأثير في سياسات الدول وقراراتها الذي يمكِّن منه اختراق أمنها المعلوماتي، والوقوف على مواطن القوة والضعف لديها؛ ومن ثمَّ فهو أدب يُظهر معه الصراع الحضاري القائم بين القوى المتنافرة، والاستجابة للأطماع البشرية التي ستبقى تهديدًا لمفهوم التعايش الإنساني". ولم تعرف الرواية العربية الحديثة هذا الأدب إلا مع احتدام الصراع العربي الإسرائيلي الذي شهد بروزا لنشاط العدو الصهيوني في مجال الاستخبارات لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية. فجاءت الرواية المخابراتية في الأدب العربي استجابة لتلك المتغيرات، وكنوع من المواجهة الأدبية مع العدو. ويؤرخ الكتاب لتلك الروايات اعتبارا من عام 1970، وهو تاريخ صدور كتاب "قصتي مع الجاسوس" للكاتب ماهر عبدالحميد، وهو ضابط مصري، وكان قد أوضح على الغلاف الأمامي لروايته أنها "أول عملية مخابرات مصرية تنشر تفاصيلها كاملة"، ويعدّ أوّل من كتب في مجال الأدب المخابراتي؛ إذ أردف كتابه الأول بعدد من الأعمال منها: "كنت صديقًا لديان"، و"عملاء من القاهرة"، و"جاسوس فوق البحر الأحمر". وكلها صدرت قبل أن يبدأ صالح مرسي أعماله في ذلك الإتجاه، وكأنما عبدالحميد اكتفى بالريادة وسلم الراية لأديب متحقق أصدر قبل تخصصه في رواية الجاسوسية أعمالا عديدة لافتة لاقت اهتماما نقديا كبيرا. وقد استطاع صالح مرسي أن يصوغ من المعلومات المخابراتية أعمالا إبداعية، جاوزت التقيد بالتفاصيل والحقائق المرجعية، إذ اهتمت بالحقيقة الفنية أكثر من اهتمامها بالحقيقة التاريخية، كما منح نفسه حرية التدخل الفني في الوقائع، فلم يعد هذا الأدب مجرد عمل انطباعي يسجل تجربة مخابراتية، كما في تجربة ماهر عبدالحميد، وإنما شكلت أعمال مرسي نموذجا فنيا ناجحا، جذب القراء فتعددت طبعات أعماله رغم التجاهل النقدي لها، كما لاقت إقبالا جماهيريا كاسحا حينما تحولت لأعمال سينمائية وتليفزيونية، فارتبط هذا الاتجاه الروائي العربي باسم صالح مرسي بداية من مجموعته القصصية "الصعود إلى الهاوية" عام 1976، ثم "الحفار"، و من بعدها الروايات عديدة الأجزاء مثل "رأفت الهجان: كنت جاسوسًا في إسرائيل"، و"سامية فهمي"، وأخيرا "دموع في عيون وقحة" عام 1993. ويشير الكتاب إلى تجارب أخرى أشهرها تجربة نبيل فاروق الذي تميَّز بغزارة إنتاجه الأدبي، وارتباط فئة الشباب والناشئة بكتاباته، وهو ما أسهم في دخول تلك الفئة العمرية إلى قراءة هذا الأدب الذي عرف معه السلاسل الروائية، فقد ارتبط اسمه بسلسلة "رجل المستحيل" التي امتدَّت إلى مائة وستين جزءاً، ورغم تعدد الأسماء وتوالي الإسهامات لكن تبقي أعمال صالح مرسي الأكثر تميزا، والأكثر استيفاء لشروط أدبية ذلك النوع من الرواية. • معوقات الانتشار ورغم تأكيد الكاتب على أدبية وأهمية رواية المخابرات، وعلى الدور الوطني الذي يمكن أن تلعبه، إلا أنه يؤكد حقيقة محدودية انتشارها، فعدد كتابها قليل، وذلك يرجع - بحسب الكتاب - إلى أربعة عوامل، أهمها صعوبة الحصول على المعلومات اللازمة لبناء أحداث الرواية، وذلك قيد تفرضه طبيعة العمل المخابراتي، أيضا الإهمال النقدي لهذا اللون الأدبي واعتقاد النقاد أنه يفتقر لمقوّمات الإبداع، وقد أرجع الدكتور صلاح فضل هذا التجاهل للجماهيرية الفائقة التي حظيت بها هذه الأعمال عن طريق المسلسلات التليفزيونية أخرجها من دائرة الكتابة إلى دائرة الصورة، كما أن طبيعة الصراع في تلك الأعمال يفرض أنماطا متكررة من الشخصيات، كما أن هذه الروايات تحتاج كاتبا من نوع خاص يملك مع المهارة الفنية والحرفية الكبيرة إستعدادا خاصا يتيح له الاحتفاظ بجماليات وفنيات الرواية دون الإخلال بحقيقية الوقائع التي يعرضها. (خدمة وكالة الصحافة العربية)
مشاركة :