إن أسمى أخلاق المسلم أن يمتلئ قلبه بالرضا، وأن يكتفي بالقليل الطيب من الرزق الحلال، ولا يطمع فيما لا يملك، وأن يبتعد عن التسخط والشكوى، وما أحلى القناعة! وما أجمل الرضا بما قسمه الله سبحانه وتعالى للعبد! وما أروع الزهد في الدنيا رجاء ثواب الآخرة! كما أن القناعة لا تعني بالضرورة أن يكون العبد فقيراً معدماً، فالغني أيضاً بحاجة إلى قناعة، وقناعته أن يكون راضياً شاكراً، فكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة؛ فلا يغشّ في تجارته، ويؤدي زكاة ماله، ولا يمنَع أُجَراءَهُ حقوقَهم، ولا يذلّ نفسه من أجل مال أو جاه. ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على القناعة، وبيّن أنها طريق إلى السعادة والفلاح، فقال عليه الصلاة والسلام: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» (أخرجه مسلم، برقم 1054). يقول العلامة المرداوي الحنبلي في منظومته: فَمَا الْعِزُّ إلاَّ فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِأَدْنَى كَفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّد وتوضح هذه القصة الواقعية (رواية د. يعقوب يوسف جاسم الحجي ــ الباحث في التراث الكويتي) مثالاً ونموذجاً لصاحبها التاجر مبارك الساير رحمه الله تعالى، التي يرويها د. يعقوب يوسف الحجي قائلاً: «كانت للتاجر مبارك الساير رحمه الله مساحات واسعة من الأراضي في القبلة، وفكر في استثمارها في مجال العقار، وبعد أن استشار من يثق بهم، وبعد دراسته لحال السوق جيداً في ذلك الوقت، بدأ في بنائها بيوتاً صغيرة، وشرع في بيع تلك البيوت على أهالي الكويت من ذوي الدخول المحدودة، وقد اتخذ على نفسه عهداً، وأضمر في داخله، ألا يبالغ ولا يزيد في السعر حتى يتمكن غير القادرين من امتلاك وشراء تلك البيوت، فكان رحمه الله على يقين من أن الكثير من أهل الكويت في ذلك الوقت غير قادرين على بناء بيوت كبيرة، أو شراء أراضٍ بمساحات واسعة، والعمل وتحمل نفقة بنائها وتجهيزيها، فجعل البيوت التي بناها بأسعار معقولة، وبربح بسيط، حتى تكون في متناول الجميع. وفي يوم من الأيام جاءه أحد أبناء الكويت غير القادرين، وطلب منه أن يتساهل معه، ويبيعه أحد تلك البيوت، فسأله مبارك الساير رحمه الله: كم عندك؟ فرد عليه هذا الرجل على استحياء: ما عندي إلا 150 روبية (وكان سعر البيت أكثر من ذلك بكثير)، فرد عليه التاجر القنوع مبارك الساير قائلاً: «يا ولدي، أعطني ما عندك (150 روبية) وهذا مفتاح البيت، ومبارك عليكم البيت أنت وأهلك، ومن عسرك إلى يسرك». وهكذا ضرب التاجر مبارك الساير رحمه الله تعالى مثالاً واقعياً يحتذى في الرضا بالقليل والقناعة بما قسمه الله له، ومراعاة الآخرين، فوافق على بيع البيت بمبلغ أقل بكثير من تكلفة بنائه في مقابل إدخال السرور على قلب ذلك الرجل غير القادر، وآثر فرحة هذا الرجل وأهل بيته بامتلاك أحد البيوت على الربح الدنيوي والمكاسب المادية الزائلة، بل فضل ما عند الله سبحانه وتعالى، والآخرة خير وأبقى. وهكذا كانت حال الكثير من آبائنا من أبناء الكويت الكرام، فقد رزقهم الله سبحانه وتعالى القناعة والرضا، وتواترت عنهم القصص العجيبة في هذا الشأن، التي تثبت عدم تعلقهم بالدنيا ومكاسبها الفانية، ولكن الرغبة فيما عند الله، فغلب عليهم الزهد في الدنيا والرغبة في مساعدة الآخرين، وحب الخير لجميع الخلق، حتى لو كان ذلك على حساب مصلحتهم الشخصية أو مكاسبهم المادية، فعاشوا حياة طاهرة نقية، وسطروا أسماءهم بحروف من ذهب في سجل التاريخ الإنساني. د. عبد المحسن الجارالله الخرافي ajalkharafy@gmail.comwww.ajkharafi.com
مشاركة :