ما حدث في مدينة عفرين السورية كاف للكشف عن عمق الأزمة الفكرية والثقافية والحضارية التي نعيشها، ولفضح تيار الإسلام السياسي وخاصة من زاوية كفره بالوطنية، بل وحقده عليها، إلى درجة التحالف مع العدو الخارجي ضد أبناء البلد الواحد، ثم الإعلان عن تحرير مدينة عبر احتلالها من قبل قوات أجنبية، واستباحتها استباحة كاملة، والانتقام من سكانها المحليين بشكل لا يبرره إلا الحقد العقائدي الذي أبداه الإخوان المسلمون من خلال مسلحيهم على الأرض، وكتائبهم الإعلامية والإلكترونية. فقد اعتبر الإخوان في تدويناتهم ومقالاتهم أن رفع العلم التركي على مدينة عفرين السورية يعتبر فتحا من الله ونصرا مبينا، وقدموا أحرّ التهاني وأطيب التمنيات لزعيمهم أردوغان، كما عبروا عن أملهم في أن يفتح الله عليهم مدنا أخرى، حتى أن أحد إخوان ليبيا دعا ربه أن يمكنهم من طبرق، المدينة الهادئة التي حملت على الدوام لقب مدينة السلام، حتى أن مجلس النواب المنتخب اختارها لتكون مقرا لانعقاد جلساته بعد أن انقلبت الميليشيات الإخوانية على نتائج انتخابات يونيو 2014، واحتلت طرابلس، ونشرت الخراب في بنغازي. المتشفون في عفرين، حاولوا أن يبرروا موقفهم بأن جيش الخليفة العثماني، انتصر على من سموهم بالماركسيين الأكراد، حتى لا يقال إن الضحايا من السكان المحليين، ومن تعرضت أعراضهم للانتهاك وأرزاقهم للنهب ومساكنهم للاقتحام والحرق، هم مسلمون، وينتمون إلى الطائفة السنية، وهم أصحاب الأرض، أما أن يكونوا من الأكراد فذلك لا يتنافى مع قيم الإسلام الذي يفترض أنه دين إنساني، وللبشرية جميعا، ولكن حتى مفاهيم الدين تم إخضاعها من قبل قوى الإسلام السياسي لتكون في خدمة المشروع القومي الطوراني التوسعي الذي يقوده أردوغان، فالإخوان قرروا أن يكونوا ممثلين للخليفة العثماني الجديد في بلدانهم، يرفعون رايته، ويقدمون له ثروات أوطانهم، ومقاليد حكم شعوبهم، مع خالص عبارات الولاء والطاعة، وهم يجدون في كل بلد، ما يبررون به تقسيم المجتمعات، فهذا علماني وذاك يساري والثالث ليبرالي، وقد يسمونه بالماسوني أو الكافر أو الاستئصالي، أو الخارج عن الملة، تماما كما فعل جزء من الإسلاميين السوريين مع أهل عفرين، عندما نكلوا بهم بدعوى أنهم ماركسيون، بينما يعود السبب الحقيقي إلى أنهم من القوميين الأكراد الحالمين بإنشاء وطن قومي لشعبهم وهو ما يتعارض مع الجغرافيا الحالية للدولة التركية. في 20 يناير 2018، دشنت تركيا عملية عسكرية ضد مدينة عفرين، أطلقت عليها اسم “غصن الزيتون” الذي كان منذ آلاف السنين رمزا للسلام، وهو ما يكشف عن طبيعة حرب المفردات التي تخاض في هذا الزمن الغرائبي، وعن التلاعب بالقيم السامية في حروب قذرة، تتخذ في كل مناسبة لبوسا جديدا، كالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحفاظ عن الهوية وحقوق الإنسان والسلام والدفاع عن المستضعفين في وجه الاستكبار العالمي، بينما النتائج تفرز غير ذلك، وتثبت أنها حرب للنهب والسلب والانقلاب على الأنظمة والدول وتغليب مصالح الجماعة على حساب المجتمعات. حرب للعودة بالزمن إلى الوراء، لذلك يجد فيها الخليفة العثماني الجديد أنصارا من أغلب الدول العربية، يقاتلون في صفوفه، ويضربون على دفوفه، ويتمنون يوما تصل فيه أساطيله إلى بلدانهم، لتحتل الأرض وتذل الشعوب، مقابل توليتهم مشرفين على الأقاليم والولايات، يحكمونها بالحديد والنار. احتلال عفرين كشف كذلك عن حقد الإسلام السياسي على الهويات القومية للشعوب الأخرى، وهو ما فضحه تحطيم تمثال كاوا الحداد، البطل الكردي الأسطوري الذي أنهى ظلما تعرض له الأكراد على يد ملك فارسي يدعى أزدهاك، حتى أن البعض ربط بينه وبين احتفالات النوروز عند الأكراد. وسيكون من البديهي أن يتساءل المرء: لماذا حافظ الأتراك ومناصروهم من مسلحي الجماعات الإسلامية على آثار وأضرحة العثمانيين في المناطق التي دخلوها في سوريا، بينما دمروا التماثيل والأضرحة العربية والكردية وغيرها؟ وما الذي يطمحون إليه من خلال سعيهم لطمس الهويات الأصلية للشعوب الأخرى؟ وكيف وصل الأمر إلى حد أعلن فيه إسلاميون من دول أخرى، أن شعوبهم ما كانت لتكون مسلمة حاليا لو لا الدور العثماني؟
مشاركة :