الرياض - لم يعد الشباب السعودي، الذي يمثل أكثر من نصف التركيبة السكانية، ينتظر حتى يسافر لينفتح على العالم ويعيش كما يعيش غيره من الشباب. أعلى نسب رواد شبكات التواصل الاجتماعي ومختلف مواقع الإنترنت من الشباب السعودي. لم يعد الزواج هو الهدف الأول لهؤلاء الفتيان والفتيات، بل التعليم والعمل أولا. يفرض هذا الواقع تغييرا حتميا في عدد من سياسات السعودية وتوجهاتها وحتى تقاليدها وأحكامها بما يتماشى مع خصوصية مجتمعها. كانت هناك خطوات محتشمة للتغيير، بعض الخبراء يرجعون ذلك إلى أن الجهة المطلقة للإصلاح كانت تفتقر إلى نفس الشباب ومن يفكر نفس تفكيره ويتحدث بلغته؛ وإذا لم يتحرك مركز القرار فسيتحرك الشباب السعودي، إن عاجلا أم آجلا، وهنا سيجد دعما غربيا واسعا في ظل الصورة التي تطغى في الخارج عن السعودية المتشددة، من هذا المنطلق تأتي رؤية ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان لجعل المملكة منارة للاعتدال، بدلاً من أن تكون داعية إلى الفكر المتطرف، في ظل التطلع إلى مرحلة ما بعد النفط. الأمير خالد بن سلمان: لم يكن مسارنا القديم مستداما، والتغيير جار الآن في كل جانب ووصف ولي عهد السعودية الشاب الأمير محمد بن سلمان الموجة الجديدة من الإصلاحات بأنها جزء من العلاج بـ”الصدمة” الذي يُعد ضروريا لتطوير الحياة الثقافية والسياسية في السعودية. لكن، متابعة تغطية وسائل الإعلام الغربية وتصريحات المسؤولين في الغرب وتساؤلاتهم حول ما يجري في المملكة وإلى أي مدى سيمضي الأمير محمد بن سلمان بخطط إصلاحاته تفيد بأن الصدمة الفعلية أصابت الخارج أكثر من الداخل السعودي. مرد هذه الصدمة الصورة التي حصر فيها الإعلام الغربي السعودية، والتي ساعدت بدورها على ترسيخها من خلال سياسات فرضتها التحولات الإقليمية والدولية في أواخر السبعينات من القرن الماضي. ويتحدث عادل الطريفي، وزير الثقافة والإعلام السعودي السابق، عن تلك الفترة قائلا “أصبح عام 1979 نقطة تحول بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط. فقد أطاح الثوريون الإيرانيون بالشاه، وغزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان، وحاول المتطرفون الإسلاميون من السنة الاستيلاء على المسجد الحرام في مكة بالمملكة العربية السعودية”. ويضيف الطريفي “محاولة الاستيلاء على مكة المكرمة كانت حدثا مميزا في بلدي، ويرجع ذلك أساسا لما حدث بعد ذلك. فقد قرر حكام السعودية، متخوفين من مثال الثورة الإيرانية، إعطاء مساحة أكبر للمؤسسة الدينية السلفية على أمل مواجهة المتطرفين. فالدعاة السلفيون التقليديون ليسوا عنيفين ولا سياسيين لكنهم يتبعون وجهة نظر جامدة للإسلام، وساهموا بأحكامهم القانونية وفرض الرقابة على الأخلاق في نشر الفكر غير المتسامح داخل المجتمع مما أدى إلى تراجع الانفتاح التدريجي الذي حدث في الستينات والسبعينات (من القرن الماضي)”. تصحيح أخطاء الماضي كانت فكرة صانعي السياسة بسيطة، وفق الطريفي: أعطوا الإسلاميين السياسيين وفروعهم السلفية المجال للتأثير في الشؤون التربوية والقضائية والدينية وسنستمر في السيطرة على السياسة الخارجية والاقتصاد والدفاع. وكان حكام السعودية يتعاملون مع الأجهزة “الهاردوير” في حين أعاد المتطرفون كتابة “برمجيات” البلاد، ولا يزال المجتمع السعودي والعالم الإسلامي يعانيان من الآثار. وقد سمحت تلك السياسة لأسامة بن لادن بتجنيد 15 سعوديا للمشاركة في أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، وكانت لهذا الإخفاق آثار عالمية. وبعد تلك التفجيرات، قلّصت السعودية من أدوارها الخارجية في مواجهة الضغط الدولي والاتهامات بنشر التطرف والتشدد، ورسخ الصمت السعودي، والعربي، هذه الصورة أكثر فأكثر، والتي استفاد منها الغرب في الخارج كما استفاد منها المحافظون والمؤسسات الدينية النافذة في السعودية. ويقول الطريفي “كان الأمير محمد بن سلمان واضحا في الحديث عن المشكلة، قال لي ذات مرة: الإسلام السياسي سواء كان سنيا أو شيعيا أو إخوانا مسلمين أو سلفية جهادية قد أضر كثيراً بالدول الإسلامية، كما أنه يشوه سمعة الدين الإسلامي، ولذلك فإن دور الدول الإسلامية هو مواجهة هذه الأيديولوجيات والجماعات الشريرة والوقوف مع حلفائنا الدوليين في الغرب والشرق لمواجهتهم مرة واحدة وإلى الأبد”. بالتوازي مع ذلك، كان هناك جيل جديد ينمو، بعضه ولد في أوائل الثمانينات من القرن الماضي والبعض الآخر ولد مع بداية الألفية الثالثة، بكل ما حملته من ثورة في عالم التواصل، وبين هذا وذاك هناك جيل ولد في السعودية قبل سنة 1979، وذاق طعم الانفتاح الثقافي والاجتماعي وارتياد دور السينما والعيش بعيدا عن قيود المطوّعين، ونقل تلك الصورة إلى أبنائه خصوصا عبر إرساله إلى التعلم في الخارج. وفي خضم هذا، كانت بعض الأصوات الإصلاحية تبرز من فترة لأخرى، وكانت هناك بعض المبادرات الملكية، من ذلك افتتاح العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله “جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية”، وهي أول جامعة للتعليم المشترك في المملكة (2009)، وكأي مبادرة خارجة عن مألوف المجتمع السعودي ما بعد عام 1979، لم تحظ الخطوة بتأييد الجميع، حيث انقسمت المواقف بشأن ما إذا كانت البلاد مستعدة للاختلاط بين الجنسين، وكان دائما صوت المحافظين أعلى، إلى أن انقلبت المعادلة، وأضحت الضرورة الأمنية القومية تفرض صوتا أعلى من صوت المحافظين، صوتا يتحدث بلسان قاعدة المجتمع العريضة، الشباب الذي ملّ الإصلاح قطرة قطرة. عادل الطريفي: الأمير محمد يحارب أشباح عام 1979 في ظل قيامه بحركة الإصلاحات عندما خلف الملك سلمان بن عبدالعزيز الملك عبدالله بن عبدالعزيز، كانت التحديات تحيط بالسعودية من كل جانب، اقتصادية وإستراتيجية فضلا عن توتر في علاقتها مع الولايات المتحدة التي فتحت المجال أمام استفزازات إيرانية تهدد أمن المملكة العربية السعودية، وهي تهديدات أعادت إلى الأذهان ما حدث إبان صعود الجمهورية الإسلامية وما تسببت فيه من انقلاب في المنطقة، وتأثيرها على السعودية، بالإضافة إلى أزمة أسعار النفط، حيث تأثرت السعودية عندما كان النفط في حدود 35 دولارا للبرميل الواحد مما قلص مدخراتها من العملة الأجنبية لأول مرة على مدى جيل كامل. لكن، خلافا لتلك الفترة، لم تتراجع السعودية واختارت طريق الإصلاح والتغيير والمبادرات الدفاعية الخاصة، ومثلما شنت عاصفة الحزم في اليمن، شنت أيضا عاصفة تغيير داخلية لإصلاح الصورة التي رسمت قسرا عن السعودية، ولغايات انتهت صلاحياتها الزمنية، كما أن من ساعد على ترسيخ هذه الصورة لم يكن السعوديين أنفسهم بقدر ما ساهم في ذلك الغرب من جهة والجماعات الإسلامية التي لجأت إلى السعودية هربا من التضييق السياسي عليها في بلدانها. أمام هذا الواقع، إلى جانب الحنكة السياسية كان لا بد من جرأة الشباب وإقدامه، وهو ما عكسته صورة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ضمن معادلة فرضتها كل المتغيرات التي تعيشها السعودية. وكان الشباب أكثر من استبشر بوجود الأمير محمد بن سلمان، لأنه ببساطة واحد منهم. قضى الأمير محمد بن سلمان أغلب سنواته في السعودية، حيث درس الحقوق وتخرج من جامعة الملك سعود، أي أنه مطلع عن قرب على الشباب السعودي ومشاكله وتطلعاته وانتظاراته، التي عكستها إلى حد بعيد رؤية السعودية 2030، وهو اليوم، كما يقول الطريفي “‘أشباح عام 1979 في ظل قيامه بحركة الإصلاحات الجذرية للمملكة”. وكتب المحلل في شؤون الشرق الأوسط، جيمس دورسي قائلا إن ولي عهد السعودية يهدف إلى جعل المملكة منارة للاعتدال، بدلا من أن تكون داعية إلى الفكر المتشدد المتطرف، مشيدا بالحداثة المتقدة التي يقودها شاب مُصلح. ويضيف أن الأمير محمد بن سلمان تعهد بإعادة المملكة العربية السعودية إلى ما كانت عليه قبل 1979، إلى الإسلام المعتدل، منوها بأن المملكة قد توقف تمويلها العالمي للمتشددين، وذكر في هذا السياق مثال تخلي الرياض عن إدارة “المسجد الكبير” في بروكسل. يصف منتقدو ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، بأنه شاب مندفع، لكن في رأي عادل الطريفي هم “على حق وهذا بالضبط ما يجب أن يكون، لقد حان الوقت”، السعودية اليوم قاعدتها الهرمية شابة، وكل ما فيها ينضح شبابا، فمن الطبيعي أن تكون خطواتها نحو التغيير مواكبة لروح شبابها، الذي لم يرغب في السفر للانفتاح على ثقافات العالم، بل يريد أن يستثمر في بلاده أغلب وقته، عملا وترفيها. وعن هذا يقول عادل الطريفي “لقد فعل شيئًا غير ملموس ولكنه حيويّ؛ وهو سد الفجوة العميقة بين الحاكم والمحكوم، فمثل ثلاثة أرباع السعوديين، هو تحت سن الخامسة والثلاثين، يتحدث لغتهم، ويستخدم تطبيقاتهم، ويعرف جيدا الأمور التي تثير إحباطاتهم بما في ذلك الفساد، لذلك ينبغي النظر إلى حملته الأخيرة التي قادها ضد الفساد”. تغييرات مؤثرة بشر العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده بالفعل ببعض التغييرات الجريئة، وقد قاد ولي العهد هذا الجهد لدحر الشرطة الدينية القوية، ولم يعد من حق هؤلاء أن يوقفوا أي شخص في الشارع بعد أن تم تهميشهم بفعالية. ومنحت المرأة حقوقها التي طال انتظارها في قيادة السيارة وممارسة الرياضة وفي حضورها المجتمعي بشكل عام. ولم تعد ملزمة بارتداء نوع معيّن من الحجاب. ويتوقع عادل الطريفي رؤية المزيد من النساء المعينات في المناصب العليا في الحكومة حتى على المستوى الوزاري. وأطلق ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مؤسسة “مسك” لتزويد الشباب السعودي بتدريب على مستوى عالمي من المهارات، كما قاد الطريق في تطويع الحياة في المملكة العربية السعودية لأجل الشباب الذي يتذمر من القيود الاجتماعية. كما تقوم هيئة الترفيه الجديدة بتقديم حفلات أجنبية للسعوديين، وعروض مسرحية ودور للسينما وقريباً دار أوبرا ملكية. وفي مؤتمر أكتوبر 2017 للمستثمرين الدوليين، صرح ولي عهد السعودية بأفكاره عن الإسلام المعتدل قائلا “لم تكن المملكة العربية السعودية على هذا النحو قبل عام 1979، نريد العودة إلى ما كنا عليه، الإسلام المعتدل المنفتح على جميع الأديان، نريد أن نعيش حياة طبيعية وأن نتعايش مع العالم ونساهم فيه، ولن نقضي السنوات الثلاثين المقبلة من حياتنا في التعامل مع هذه الأفكار المدمرة”. عندما يصدر كل هذا عن المسؤولين في المملكة العربية السعودية، طبيعي أن يتساءل متابعون وخبراء، كجيمس دورسي، عن حقيقة ما يجري في المملكة وهل حقا سيمضي الأمير محمد بن سلمان قدما في إصلاحاته، خاصة وأنه قال بوجود مجتمع محافظ وليس مجتمعا متشددا، فيما أقر آخرون بالعلاقة المتطورة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية في عهد دونالد ترامب. يقول جيمس دورسي إنه على الرغم من جرأة تحركاته، لا تزال هناك رسائل غامضة عن مدى سير الأمير محمد بن سلمان في خطة إصلاحاته. ففي حين سمح ولي العهد باختلاط النساء والرجال في الحفلات الموسيقية والمسرحيات، إلا أنه لا يزال هناك منع للاختلاط في الملاعب الرياضية الثلاثة التي تم السماح للنساء بالذهاب إليها. وفي حين أن ولي العهد كان حاسما في فرض سيطرته وقوته في الدولة، إلا أنه لم يقل بعد كلمة واضحة حول رفع نظام الوصاية في السعودية الذي يمنح الأقارب الذكور حق السيطرة على حياة النساء. وبالمثل، لا يوجد هناك ما يدل على أنه سيتم السماح للجنسين بالاختلاط في المطاعم والأماكن العامة الأخرى. جيمس دورسي: هناك رسائل غامضة عن مدى سير الأمير محمد في خطة إصلاحاته وفي مقال رأي نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، بعنوان “السعودية تتبنى التغيير وأميركا يمكنها أن تساعد”، أكد الأمير خالد بن سلمان، سفير السعودية في واشنطن، صدر بالتزامن مع زيارة الأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة “لم يكن مسارنا القديم مستداما، والتغيير جارٍ الآن في كل جانب من جوانب المجتمع. فنحن نقوم بتوسيع حقوق المرأة، وتحسين الخدمات للحجاج المسلمين والاستثمار في المشاريع العملاقة عبر مختلف الصناعات. نحن نفتح بلدنا للسياحة، وخلق صناعة الترفيه المحلية، وتعزيز التراث والثقافة السعودية. ونقوم أيضا بإعادة هيكلة نظامنا للرعاية الصحية والتعليم. هذه بعض الإصلاحات التي تم إطلاقها بالفعل”. وأضاف “نادرا في تاريخ البشرية أن تقوم البلدان طوعا وعلى نحو سلمي بالشروع في تصحيح حازم لمسار إعادة تقويم الاقتصاد الوطني وتوسيع المعايير الاجتماعية -دون أن تشمل الحساسيات الدينية. إلا أن هذا هو بالضبط ما تحاول المملكة العربية السعودية القيام به”، مشيرا إلى أن “المملكة عاشت طيلة عقود؛ وفقا لمعايير اجتماعية وثقافية دون اعتراض، ما عرقل تقدمنا. لكن قادتنا وضعوا مسارا جديدا يهدف إلى تحويل اقتصادنا ومجتمعنا، وإطلاق العنان لقدراتنا غير المستغلة”. وسيعرف الأمير لهذه الإصلاحات، خلال زيارته إلى واشنطن، والتي تهدف إلى تعزيز الشراكة القوية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. وأضاف الأمير خالد بن سلمان على أن “ولي العهد ليس هنا (واشنطن) فقط للتحدث عن السياسة. هو أيضا هنا للتحدث عن الأعمال التجارية، وتحديدا الفرص الاستثمارية الثنائية التي أمكن تحقيقها من خلال إستراتيجية التنويع”. لا شك أن إصلاحات الأمير محمد بن سلمان الاجتماعية والتغيير الاقتصادي الذي وعد به يعتبران خطوات هامة لكنها ناقصة في نظر المتابعين الغربيين، في حين تعد خطوات جريئة في مجتمع مثل المجتمع السعودي، فلطالما كانت سهام النقد توجه للسعودية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، دون اعتبار لطبيعة المجتمع وأن الممارسات قد تكون فردية فالتغيير ليس فقط قانونا يصادق عليه بل يرتبط أيضا بعقلية العائلات وأفراد المجتمع، وهو أمر يحتاج إلى وقت ليصبح عاما. وكما يؤكد الطريفي في هذا السياق “خلال فترة وجودي في المنصب، أدركت أن المملكة العربية السعودية ستستمر في مواجهة التحديات، ولأول مرة منذ أربعة عقود تتراجع الأشباح التي تطارد المملكة. الأخطاء لا مفر منها، وليس هناك دليل إرشادي عن كيفية إصلاح دولة ما. لكن قادة مثل الراحل لي كوان يو من سنغافورة يظهرون مدى قدرة الدولة على اتباع السياسات الصحيحة”. مازال أمام المملكة العربية السعودية طريق طويل لن يكون خاليا من الصدمات والمطبات لتسلكه نحو المستقبل. فالتغيير لا يأتي بسهولة. لكن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، رفع سقف التوقعات بشكل كبير. لقد خرج الجني من الزجاجة، ولا يمكنه الرجوع إلى داخلها مرة أخرى”.
مشاركة :