توجد أزمة عميقة في النظام الدولي، فالقيادة العالمية -ممثلةً بأميركا- تبدو أنها تفقد يومياً الأخلاق العملية حتى البرغماتية، ولهذا فإن أزمة الحضارة الغربية تزداد سوءاً، وعلى الأخص في المجال القيمي، وقرأت قريباً أكثر من مقال ينتقد الديمقراطية الغربية التي تفقد البريق من جانب، كما تفقد المصداقية من جانب آخر. إن رئيس أكبر دولة في العالم يقيل وزير خارجيته بتغريدة في التويتر، وصدقت كيلنتون حين قالت في الحملة الانتخابية ضد غريمها ترامب إن "الأخير سوف يقود الدولة من خلال التغريدات"، أين القانون؟ وأين الأخلاق الديمقراطية التي تشدقّت بها أميركا طويلاً؟ وأين العقل المؤسساتي الذي يحكم أميركا؟ هل هذا منطق دولة، أم هو منطق شركة؟ أصبحت الدولة الأميركية التي صاغت دستوراً يعتبر من أفضل الدساتير في العالم بيد عائلة ثرية، فأصبح صهر الرئيس يقيم علاقات، ويهدم أخرى، ويسافر إلى العالم يحمل رسائل الرئيس بدون معرفة وزير الخارجية "المُقال"، هل هذه بداية التحلل؟ أم هي نهاية العمل المؤسساتي الدستوري؟ هل هذا يقع تحت قوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً)؟ إن تسيير الدولة له منطق، ولتسيير الشركة منطق آخر، وخاصة حين تكون الشركة خاصة، وخالصة لواحد من الناس، فالدولة تحكم بمنطق العدل والشورى، والشركة تسيّر بمنطق الربح والتنافسية، فلا مجال للخلط بين المنطقين، ولكن بعض رجال الأعمال حين تقع الدولة تحت سيطرتهم تفقد الدولة قيمتها. لقد تعامل ترامب مع تيلرسون وزير الخارجية المُقال باعتباره عاملاً في شركته الخاصة، ولهذا استغنى عن عمالته، ولَم يخبره بذلك، وهذا يعتبر عرفاً خارج اللياقة الدبلوماسية، وإهانة للذات الإنسانية، وخروجاً من النسق العام للذوق الحضاري، ووقوعاً في فخ الكبر، وكل ذلك لا ينسجم مع الفكر القانوني. ولقد حسبت أن الذي يقوم بهذا العمل هو محمد بن زايد الإماراتي، أو محمد بن سلمان السعودي، واستغربت أن يكون هذا في دولة عريقة بالديمقراطية، ولهذا وجدت كل الكُتّاب والمفكرين يحذرون من هذه السقطات غير الحضارية. تيلرسون والكبار لقد رفض وزير الخارجية المُقال تيلرسون في أميركا أفكار الرئيس المتعلقة بالسياسات الخارجية، وخاصة فيما يتعلق بإيران وملفها النووي، وكوريا الشمالية وطموح زعيمها، وملف الدول المحاصرة لقطر، وغيرها من الملفات الساخنة، ومن هنا فالرئيس ترامب لا يرغب أن يسمع من مستشاريه إلا ما يُرضيه، والسياسة في الولايات المتحدة لا تقبل هذا التوجه، ومن هنا رفض الوزير المُقال أن يكون ورقة يستعمل، فأخلاق العمل والضمير الإنساني يجعلانه يسبح ضد تيار ترامب وعائلته. إن الولايات المتحدة -وفق مراقبين- في مفترق الطرق، فإذا قبلت هذه السياسات، فإنها سوف تسير نحو الهلاك، وقد حذر المؤسسون لهذه الدولة من وقوعها في فخ رجال الأعمال، والجيش، ولهذا كتبوا دستوراً يدافع عن مدنية الدولة جسداً وروحاً، كما صاغوا في الدستور إيجاد مؤسسات من شأنها أن تدافع عن وجود الدولة، وعن حقوق الشعب، بل وعن حق الأفراد، ولكن كل ذلك قد لا يكون عائقاً أمام رجال الطغيان ما لم تكن هناك صحوة شعب، ويقظة عقل من الأميركيين. وذهب تيلرسون وهو يحمل في جعبته الإهانة التي تلقاها من ترامب، ولكنه يذهب وهو يحمل كذلك في ذاته مشروع الرفض للكبار، ولو كان ترامب، وسوف يحفظ الشعب الأميركي له هذه اليقظة، وهذه كذلك سوف تكون جزءاً من السيرة الذاتية لهذا الرجل، وأنا على ثقة كاملة بأنه سوف يكتب تجربته الثرية في العمل مع رجل يحكم أميركا العظمى بعقلية رجال الشركة. وذهب من مكتبه، وألقى كلمة قصيرة للموظفين في الخارجية، وشكر جميع العاملين والموظفين، ولكنه لم يقُل ولا كلمة واحدة عن ترامب، فهذه كذلك ترفّع عن السفاسف، والحياة فيها دائماً الكبار والمراهقون والصغار، بل ودون الصغار في غالب الأحيان. ذهب الرجل الذي مثل في البيت الأبيض العقل والرشد، وكان يميل إلى العقلانية في التعامل مع الملفات الساخنة، فهو يرى أن روسيا عدو قادم، وأن الصين قوة اقتصادية منافسة، وأن إيران قوة وهمية تجعلها الدول الوظيفية في الشرق الأوسط عدواً حقيقياً للغرب، ولكن ترامب لا يريد أن يسمع هذا الكلام العقلاني، فهو يريد تحقيق أهدافه بسرعة، ذلك لأن الزمن المتبقي لديه قليل، ويجب أن يحقق شيئاً في أرض الواقع، ولهذا يجب ألا تكون أمامه عقبات، فليرحل العقلاني (تيلرسون)، وليأتِ بدلاً منه مَن يوافق مزاج ترامب في رؤيته للعالم. مستقبل الشرق الأوسط في ظل ترامب وفى الزمن الآتي، تكون الحياة صعبة في الشرق الأوسط، وتكون أصعب في فلسطين، وفي غزة، وتصبح القضية الفلسطينية تحت التهديد المباشر، فهناك مجموعة من المتشددين في البيت الأبيض، ولهم ميول سياسية متقاربة، وتوجهات عقائدية واحدة تجاه الأحداث في العالم الإسلامي. إن الزمن الآتي لن يكون سهلاً للشعوب التواقة للحرية، وللحركات السياسية التي تعمل لصالح التغيير السلمي، فهناك شعور بالسعادة، ولو كانت وهمية عند اليمين الإسلامي المتطرف (محمد بن زايد + ثلاثة)، وهي: السعودية، والبحرين، ومصر، فعرّاب القضية هو محمد بن زايد، ويمثل الآخرون توابع يدورون في فلكه، بل وذكر أحد هؤلاء بأنه كان وراء إقالة وزير الخارجية تيلرسون، وهو أمر مستبعد، ولكنه قد يكون صحيحاً في الظاهر، ففي بعض الأحيان يقبل الرأي الصادر من العميل الوظيفي. ولا يعرف اليمين الإسلامي المتطرف حالة أميركا الثقافية، فأميركا حين تستيقظ تستعيد قوتها من الغاصبين، ولهذا يكتب أحد الفاهمين بأن "الولايات المتحدة تحولت إلى الإمارات المتحدة"، فهذه لحظة استثنائية، ولكنها قد تكون خطيرة في المنطقة العربية والإسلامية حيث يمرر فيها مشاريع ضخمة كصفقة القرن وتوابعها، بيد أن الحقيقة التاريخية تؤكد أن يقظة الشعوب تحدث من خلال الضربات، وليس من خلال التنويم المغناطيسي الذي يستعمله بعض الساسة من أولي الألباب. وجاء مايك بومبيو، الرجل الذي يتقاسم مع ترامب الرؤية والتوجه، ولديه خبرة واسعة في المجالات الأمنية والعسكرية، وعمل كل واحدة منهما، وتخرج في جامعة هارفارد، وعنده شركة خاصة حول الأبحاث الفضائية، وتحمل الأيام القادمة أسراراً قد نعرفها بعد زمن طويل. وتوجد مسألة مهمة في أميركا، وهي أن الرأي العام فيها قوي جداً، وما زال الشعب الأميركي واعياً، وتوجد مؤسسات في أميركا تواجه الطغيان، ومع ذلك، يشار إلى أن ثمة تراجعاً في هذا الميدان، مما يجعل مستقبل العالم في تساؤل. إن الجالية المسلمة في الداخل تُبدي تخوفاتها من التحولات العميقة في البنية الأميركية، ولكن ما زال موجوداً من يُؤْمِن بأن عظمة أميركا في دستورها وقيمها الديمقراطية، وتعدّد الثقافات فيها، فالمجتمع الأميركي بني على العقود، وليس على القوة، فهو مجتمع مسلّح، ولا يوجد أحد أقوى من أحد، ولكن توافقوا بينهم على أن يكون المواطن بحقوقه هو الأقوى، ولهذا كانت أميركا قويةً من الداخل. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست عربي لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :