ضمن سلسلة من المقالات التي تم نشرها لي في هذه الصفحة مؤخرًا، عن الحرية مقابل أمور كالديمقراطية والقانون وسلطة التملك واكتساب المعرفة، أختم هنا المواضيع المتعلقة بمفهوم «الحرية».. فالحرية حق واجب لكل فرد في أي مجتمع كان، مهما علا شأن هذا الفرد أو كان دون ذلك.. بغض النظر عن الجنس والسن ومستوى الثقافة والعلم.. الكل له نصيب من الحق في حريته الشخصية وممارسته لحياته ومعتقده.. الكل حر في اختياراته وقراراته.. طالما لا تؤذي هذه الحرية وممارستها حرية الآخرين.. لتبقى الحرية حلقة في سلسلة تضيف وتبني وتعين في حيثيات ممارستها مصالح مشتركة تهدف إلى بلورة مصلحة عليا يستفيد منها الجميع وتؤدي إلى رقي المجتمع واستقراره. تقول الأستاذة «هداية رزق» في (موقع: موضوع): «تختلف المذاهب الفكرية والثقافية في إيجاد معنىً دقيقٍ وواضح لكلمة (الحقّ) إلا أن هذا الاختلاف يكاد يُجمع على أن الحق هو تلك المصلحة المشروعة التي لا يُمكن لأي فردٍ أن يمنع آخر من الحصول عليها، ومن هنا جاءت أهمية معرفة الفرد حقوقه وإدراكه طرق اكتسابها والحفاظ عليها. لعل أبرز هذه الحقوق (حقّ الحرية)؛ حيث نعني بالحرية قدرة الفرد على ممارسة مجموعة من الأفعال المبرّرة والمشروعة دونما قيود فكرية أو جسدية تُفرض عليه؛ فالحرية ضرورة من الضرورات البشرية، بل هي فطرة جُبل على حبها الإنسان، يميل إلى الحصول عليها منذ نعومة أظفاره، وتغدو مطلبًا شرعيًا له كلما تقدّم به السن». إذا، كما هي حرية الفرد مطلب أساسي وطبيعي، كذلك يكون مبدأ الحفاظ على حقوق الغير.. طالما لا تتضارب المسائل وطالما لا تكون كما يقال «أنا.. ومن بعدي الطوفان»! فمثلما يكون للفرد حق في ممارسة حريته، فإن هذه الحريّة مرهونة بالعديد من الضوابط الأخلاقية والاجتماعية التي تجعل منها منظومةً فكريّةً أخلاقيّةً تكفل للمرء حقوقه دونما تجاوز لحريات الآخرين ودونما تقصير بحق المجتمع. فالحريّة الفردية تنضوي على الكثير من الأشكال والمفاهيم.. فنجد حرية التعبير، وحرية العقيدة، وحرية الفكر، والعديد من الأنواع الأخرى التي تضمن للإنسان عيشًا كريمًا يليق بتفرّده ويكفل له الرقيّ والسّمو بذاته وإنسانيته. ويشرح موقع (مركز الإشعاع الإسلامي) حق الحرية: «أهم الحقوق الإنسانية وألصقها بالإنسان وأقدمها، وأكثرها أصالة على الإطلاق هما «حق الإنسان بالحرية» و«حق الإنسان بالمساواة».. فهذان الحقان هما أساس كل الحقوق، وهما أساسيان ومرتبطان بوجوده الإنساني ارتباطًا لا يقبل الانفكاك، فهما ضروريان له، تمامًا كقلبه وروحه ! فكما أن الإنسان لا يكون إنسانًا سويًا إلا بقلب وروح، فإن الغاية من وجود الإنسان لا تستقيم ولا تتحقق إلا بتمكينه من ممارسة حقه في الحرية وحقه في المساواة، لأن الله سبحانه وتعالى قد فطره وجبله على أن يكون حرًا ومتساويًا بالكرامة الإنسانية مع أبناء جنسه جميعًا.. لا فرق في ذلك بين لون ولون، أو عرق وعرق، أو إقليم وإقليم، أو مكانة اجتماعية.. فالناس متساوون بالكرامة الإنسانية، لأن آدم وحواء أصلهم جميعًا». ويختصر موقع (الأمم المتحدة) «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» على أنه وثيقة تاريخية مهمة في تاريخ حقوق الإنسان صاغه ممثلون من مختلف الخلفيات القانونية والثقافية من جميع أنحاء العالم.. واعتمدت الجمعية العامة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في باريس في 10 ديسمبر 1948 بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم. وهو يحدد، وللمرة الأولى، حقوق الإنسان الأساسية التي يتعين حمايتها عالميا. وقد ترجمت تلك الحقوق إلى 500 لغة من لغات العالم. لكن، كما أسلفنا سابقًا، لا بد لممارسة الحرية من بعض الضوابط.. حتى لا يتحول المجتمع إلى ما يشبه «حارة كل من إيدو إلو».. وهو كناية عن الفوضى، حيث كل امرئ يمد يده بالتصرف والاعتداء والتعدي على الغير، لأنه لا رادع له.. فالحرية لا تعني ممارسة أفعال تضر الآخرين وتتعدى على حقوقهم.. فشباب اليوم يحلو لهم مصطلح «أنا حر» وكأنهم أصحاب حق كامل في القيام بكل ما يشاؤون من دون رادع.. يتمادون على الغير وربما يعتدون على كل من يخالفهم الرأي بالعنف والتخريب والفوضى، ظنًا خاطئًا بأنها ضمن إطار حرياتهم الشخصية.. ينسون أن ممارسة الحرية لها تبعات ومسؤوليات.. فمثلاً، بينما لنا حق التعبير بالأساليب الصحيحة وضمن منابر التعبير المتوافرة عبر الصحافة والمنتديات وحتى الاحتجاجات السلمية والمسيرات المصرحة، لا يمكننا أبدًا التعدي بالقول أو الفعل على الآخرين وعلى الممتلكات الخاصة والعامة بغير حق.. فحتى الكتابات السياسية على جدران المنازل إنما هي تعدٍ على أملاك الناس من دون الأخذ بآرائهم وموافقتهم على ذلك.. حرق الإطارات وحاويات الزبالة وسد الطرقات، كلها أفعال شاذة تضر بمصالح الناس ولا ولن تؤدي إلى أي مصلحة تُرتجى.. وليس من دولة في العالم ترضى بهكذا فوضى من دون محاسبة وعواقب.. فعلينا أن نعلم أنه ليس هناك حرية من دون ضوابط.. وأي حرية مطلقة من دون ضوابط تقع في خانة الانحلال. والخراب والإفساد.. فالحرية المطلوبة هي اتساع مدى القدرة على فعل أو ممارسة أمر معين بشرط الالتزام بضابط أو حد معين يتفق عليه المجتمع.. أما ممارسة الفوضى بالمعنى الذي يقوم به البعض باسم الحرية الشخصية أو حرية التعبير بشكل همجي مفسد، هي قمة الانحلال في مختلف الأمور وإخلال للضوابط، حيث ينتج عن ذلك أضرار مجتمعية تفسد الغايات.. وهذا أمر مرفوض ومنبوذ ولا يرتضيه عاقل. ويقول الأستاذ «محمود القلعاوي» على موقع (لهـا أون لاين): «عاشت بعض البلاد العربية حالة من الحرية لم تشهدها من قبل، خاصة بعد ثورات الربيع العربي، ولكن للأسف رأينا البعض يعبَّر عن حريته بفوضى عاشت فيها البلاد واشتكى منها العباد.. الفوضى تشعر بها في انتشار الحرية بلا ضابط أو قيد، ولا بد للحرية منها، وقد انتشرت حرية التعبير والفكر وإجازة السب والشتم والتجريح للمخالفين، بل والاعتداء على الأبرياء، وإيذاء الآمنين، وانتشرت الفوضى والجرأة باسم الحرية في نشر كل ما يخالف عقائد المجتمع، ويصادم المعتقدات، ومع انتشار كتابة كلمات خادشة للحياء على الحوائط، بل ونشرها في بعض وسائل الإعلام، وحدوث حالة غريبة من الفوضى في الشوارع والطرقات، تمثلت في رفع أصوات الغناء والموسيقى وعلو مكبرات الصوت، وإقامة الحفلات وإطلاق الألعاب والطلقات النارية المرعبة بكثافة». بل وقد نعتبر كل أشكال مخالفة القوانين العامة نوعا من الفوضى والاستهتار.. فليس من الحرية الإخلال بالأمن أو أن يخالف البعض قواعد المرور مثلاً التي تم سنّها في الأساس للحفاظ على الأرواح والمصلحة العامة للجميع.. فلا يجوز لبعض السيارات أن تسير عكس الاتجاه، أو تمشي بسرعة عالية مخالفة للمسموح.. ولا يجوز لأحد حرية تعطيل الطرق، وسد الشوارع.. ولا يحق لبعض الباعة الجائلين افتراش الشوارع والأرصفة أو تعطيل المواصلات للتظاهر أو الإضراب، وتعطيل الأعمال وعرقلة المصالح.. فلا يجب أن تكون الحرية الشخصية على حساب الآخرين مهما كانت الأعذار والمسببات.. كما لا تشمل الحرية إزعاج الجيران مثلاً بسد الممرات بركن السيارات بشكل مخالف للأصول والذوق العام والتعدي على حقوق الجيرة.. فكل أفعال الحرية الشخصية التي تضر الغير وتتعدى على حرياتهم واستقرارهم وأسرارهم الشخصية تقع في خانة الأذية والفوضى وقلة الاحترام.. فالفرق بين ممارسة الحرية وبين ممارسة الفوضى هو ذلك الخيط الرفيع من «قريحة الاحترام» المتوقع بين الناس لبعضهم بعضا.. وما هذه إلا بعض مظاهر الفوضى التي يراد بها إفساد الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد، حتى اختلط على البعض الفرق بين الحرية والفوضى. الحرية شيء رائع.. فرائع أن تشعر أنك حر، تستطيع أن تقول ما تشاء وتذهب أينما تشاء.. تلبس وتأكل ما تشاء.. حر ما لم تضر.. إرادتك غير مسحوقة.. وبالطبع كل هذا بضوابطه الشرعية.. فبالحرية نستطيع أن نتنفس.. نستطيع أن نبدع.. نستطيع أن نتكلم.. أن نعبّر عما نريد.. أن نكتب.. ولذا كان افتقاد الحرية افتقادًا لكل هذا.. والدول المتقدمة الراقية لزامًا أن تكون لديها مساحات من الحريات.. وإلا ما تحركت وما تقدمت وما سبقت غيرها. ويقول الأستاذ «حسن على آل جميعان» في موقع (الشرق):... إن المجتمعات التي تتمتع بالحرية وتمارسها هي مجتمعات اكتشفت أنه لا يمكن أن تجعل مجتمعًا يتمتع بالخير والصلاح والطموح إلا عندما تفسح له المجال حتى يكون حرًا.. وإتاحة القدرة للناس في تطوير ذلك المجتمع الذي ينتمون إليه وتحديد هوية مستقبلهم الذي يرغبون في تحقيقه والعيش فيه، لأنهم هم مُلاك لهذه الأرض التي تسمى «وطننا». لو قارنا بين المجتمعات التي تتمتع بالحرية والمجتمعات المقيدة للحرية نجد أن وضع تلك المجتمعات المانحة للحرية أفضل بكثير جدًا من تلك التي تمنع وتصادر الحرية على مواطنيها ورعاياها.. وعليه، فالحرية تعني حياة كريمة صالحة نافعة.. فلا مفر من منح مساحات للحرية لأي أمة ترغب في إيجاد أناس أحرار أسوياء يحبون أوطانهم ومجتمعاتهم ويتمتعون باستقلالية في سلوكهم وممارساتهم وفق قانون ضابط منفتح لهذه الحرية حتى لا تتمادى وتصل إلى مرحلة الانفلات والهدم والفوضى العارمة. { أكاديمي بحريني متقاعد. mazeej@gmail.com
مشاركة :