قرن إلاّ عام تقريبا، مرّ على بيان “تونس الشهيدة” لصاحبه المناضل السياسي ومؤسس الحزب الدستوري القديم عبدالعزيز الثعالبي. قرن من الزمان، لم يقدر على أن يطمس معالم ومقاربات ورؤى نص اجتبى صاحبه أن يكون نقطة تقاطع للمجموعات السياسية والاجتماعية التونسية في تلك الفترة، وأن يكون أيضا محل إقناع وإفحام للرأي العام الفرنسي بمختلف تلويناته الفكرية. لم يكن الشيخ عبدالعزيز الثعالبي في حاجة إلى التذكير به، في سياق الخلاف الذي اندلع بين حركة النهضة وحزب نداء تونس، أواخر العام 2015، وكان خلافا يخفي تسابقا على التأصّل في تاريخ البلاد، بل كان الرجل فاعلا في تاريخ البلاد المعاصر، وكان فعله راسخا في المجالات السياسية والفكرية والدينية. على أن الخلاف المشار إليه بين حزبين، لا تجمعهما صلة فكرية أو مبدئية، سوى انخراطهما في توافق سياسي مرحلي، أعاد الرجل إلى صدارة الاهتمام، وحثّ البعض على استئناف البحث في سيرة الزعيم التونسي، وإن كان بحثا “نفعيا” للانتصار لهذا الطرف أو ذاك. الشيخ الثعالبي، المولود في تونس في العام 1876، كان مثل اغلب أترابه من الزعماء والمفكرين العرب في تلك الحقبة، يزاوج بإتقان بين البعدين الديني والسياسي، وربط بلا غضاضة بين المحلي التونسي والإقليمي العربي والإسلامي، وتلك سمة كانت طاغية لدى أغلب أقطاب النهضة العربية في القرن التاسع عشر. ارتبط منجز الرجل بنضاله السياسي وخاصة مساهمته الفاعلة في تأسيس الحزب الحر الدستوري، الذي أصبح يرتبط اسمه بالقديم بمجرد خروج الحبيب بورقيبة عنه وتأسيس حزب آخر يحمل الاسم نفسه مضافا إليه صفة الجديد. ارتبط الشيخ عبدالعزيز الثعالبي أيضا بكتابه ذائع الصيت “تونس الشهيدة” الذي كان بمثابة بيان سياسي عميق ضد الاستعمار الفرنسي، وكان أيضا برنامجا سياسيا التقت على أساسه القيادات التي عزمت على تأسيس الحزب الدستوري القديم، من أمثال أحمد السقا ومحيي الدين القليبي وصالح فرحات وأحمد توفيق المدني والحبيب زويتن وحمودة المنستيري وغيرهم. ولذلك كان برنامج الحزب ينهل من الأفكار التي أودعها الثعالبي كتابه، والتي كانت بدورها اشتقاقا من الأفكار السياسية الحديثة، الفرنسية منها بالتحديد، من قبيل إرساء نظام دستوري، والفصل بين السلطات، وضمان الحريات والمساواة، وإجبارية التعليم. لذلك كان كتاب “تونس الشهيدة” كتابا مرجعيا للحركة الوطنية التونسية، لأنه تفطن إلى وجوب مقارعة الاستعمار الفرنسي بمنطلقاته السياسية والحقوقية، وظلّ كتابا مفيدا في الراهن لفهم الاعتمال السياسي التونسي الراهن، حتى وإن بحث الباحثون عن شرعياتهم وأصالتهم السياسية في ادعاء أبوة الثعالبي. حُبّر نص “تونس الشهيدة” في ما بين 1919 و1920، وهو بذلك ينتصف فترة الاستعمار الفرنسي لتونس، ويجزئها إلى قسمين اثنين، قسم ما بين 1881 إلى 1920 حيث كانت الحركة الوطنية تناضل تحت عناوين كثيرة، وقسم ما بين 1920 إلى 1956 حيث باتت للحركة الوطنية نصوص تأسيسية ومطالب توافقية وتمثّل محدّد لطبيعة الصراع مع الاحتلال. بهذا المعنى يكون بيان “تونس الشهيدة”، فاتحة المدونة النضالية وديباجة نص الحركة الوطنيّة بل وبداية تشكلها في تكوين سياسي سيحمل اسم الحزب الدستوري والذي بنى جل أطروحاته ومقارباته على نصّ تونس الشهيدة. قليلة هي الحركات الوطنية التي بنت تكوينها على قوّة التنظير والتأصيل، قد يدفعنا الحديث هنا إلى الثورات الشعبية في أوروبا الشرقية إبان القرن التاسع عشر والتي تلمست خطاها عبر كتابات كارل ماركس وفرديريك أنجلز وفي الصين الشعبية عبر كتابات ماو تسي تونغ، أو في أوروبا الغربية تأسيسا على فلسفة الأنوار، حيث كانت النصوص البكر عبارة عن “عقود اجتماعية رمزيّة” تربط بين فورة الثورة ومقاربات البناء. مبادئ تحديثية قد يكون التسليم بأن نص “تونس الشهيدة” ينتمي إلى هذه المدونة “الثورية المبدئية” يحتاج إلى الكثير من الحذر المعرفي والتنسيب التاريخي، ولكن الأكيد أن النص ترسخ في التمثل والتصور الوطني الجمعي وصلب المنظومة المطلبية للحركة الوطنية، وإن لم يكن المتن الوحيد في المدونة، فهو بالتأكيد الشرارة البكر والافتتاحيّة الكبرى. عديدة هي الزوايا التي من خلالها يمكن قراءة “تونس الشهيدة”، فالزاوية التاريخية تبسط ثقلها وتفتح جوانبها من خلال تأكيد معظم الروايات التأريخية بأنّ المرحومين أحمد السقا وعبدالعزيز الثعالبي عكفا خلال 1919 على صياغة تونس الشهيدة، حيث أوكل النص بصيغته العربية إلى الثعالبي وترجمه إلى الفرنسية المرحوم السقا؛ فكان النصّ متينا في مضمونه، مرتّبا في أفكاره، وسابقا لزمانه بأشواط كثيرة. بمنأى عن المسألة الدستورية التي وضعها الثعالبي جوهر بيانه الوطني، وبمنأى أيضا عن المطلبية السياسية والإدارية التي بالإمكان أن تكون مبحث الأرشيفيين، لا سيما وأنّها بنت حقبة العشرينات في القرن الماضي. فإن النص يحمل الكثير من المعاني التقدمية والمبادئ التحديثية. مفارقة بين المبادئ والسياسات لا نتقاطع كليا مع من يؤكد أن البيان كتب للرأي العام الفرنسي الذي كان لا يعرف الكثير عن “المسألة التونسية”، ولا نتفق بصفة مطلقة أيضا مع من يعتبر أن “تونس الشهيدة” حُبّر لصناعة توافق في اليسار الفرنسي بالإمكان التعويل عليه في مسار التحرر الوطني، ذلك أن الكتاب لامس العقل الفرنسي الحداثي وصافح التمثل الاستعماري للإنسان، ونافح بينهما ليقيم الحجة على أن السياسة الاستعمارية الفرنسية في تونس غير متوافقة مع فرنسا مبادئ الجمهورية والمساواة. بني نص “تونس الشهيدة” على إحداث المفارقة بين المبادئ والسياسات، بين فرنسا الداخل وفرنسا الخارج، بين فرنسا التاريخ والثورة وفرنسا الحاضر والاستعمار، مؤكدا أن جل ما تقوم به حكومات الحماية الفرنسية، بداية من المقيم العام إلى أبسط موظف فرنسي، إنما هو شديد التناقض مع المبادئ الحداثية للعالم الحر. لم يضع الثعالبي الاستعمار الفرنسي في مواجهة مع مطلبية الكيان التونسي، إنما وضعه في قبالة ومكافحة ومواجهة مع مقولة التحرر الإنساني ومبادئ حقوق الإنسان وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. هنا كثف الثعالبي من معجمية سياسية وقانونية قل وجودها في المدونة الفكرية لتلك الحقبة، على غرار “الإنسانية العامة” و”الأخوة العالمية” و”العدل” و”الإنصاف” وهي مصطلحات مقتبسة من المعجم الحداثي أكثر منه من المعجم المحلي في فترة ما بين الحربين العالميتين. ومع وضع الوجود الفرنسي بين سندان المطلبية المحلية التونسية، ومطرقة واجباته أمام الشرعية الدولية الآخذة حينها في التشكل و”العالم الحر” بصفة عامة، جال عبدالعزيز الثعالبي في منظومة “التمثل” الاستعماري لأبناء المستعمرات، كاشفا عن دونية في السياسات تخفي وراءها “عنصرية في تصور الإنسان التونسي”. لن نجانب الصواب إن اعتبرنا في هذا السياق أنّ محاولة عبدالعزيز الثعالبي مختلفة عن المحاولات المحترمة والمعتبرة -بمقاييس عصرها ومصرها- للكاتب المصري الراحل رفاعة رافع الطهطاوي في “تلخيص الإبريز″ في مستوى البحث عن تراكمات التصور الذهني للآخر، إلا أن مضامين تونس الشهيدة تشير بشكل واضح إلى لبنات عمل أنثروبولوجي للكاتب عبدالعزيز الثعالبي تمكن خلالها من تفكيك العقل الاستعماري وضبط ميكانيزمات عمله. يفحص كتاب تونس الشهيدة لا فقط سياسات الاستعمار، وإنما أيضا منظومات التمثل والتصور لديه، فالعامل التونسي لا يحظى بذات الامتيازات والرتب التي يتحصل عليها الفرنسي على الرغم من أدائهما لنفس العمل، بل إن الوظائف الإدارية الوسطى لا تمنح إلا للأجنبي (الفرنسي أو الإيطالي) ما يشير إلى دونية في مستوى تمثل الشخصية التونسية ولقيمة الأداء والدور الذي يؤمنه. وقد تتبّع الثعالبي هذه السياسة الاستعمارية النابعة عن عقلية فوقية واستعلائية، حيث أشار في معرض حديثه عن التعليم إلى أنّ فرنسا عمدت في المعهد العلوي إلى تقسيم التلاميذ إلى 4 طوابير متفرقة عن بعضها البعض، الأول للفرنسيين والثاني للإيطاليين والثالث للتونسيين اليهود والرابع للتونسيين المسلمين. وقد استدلّ الثعالبي بهذا السلوك وبغيره من السلوكيات الأخرى ليثبت أنّ العقلية الاستعمارية هي عقلية عنصرية سمجة تتأسس على مقولات التفوّق الطبيعي، وتنبني على ادّعاءات الدونية العرقيّة، وهي بكل السبل والمسلكيات بعيدة كل البعد عن الإنسانية المزعومة فرنسيا. غير أنّ الذكاء الوقاد للثعالبي لا يترك للتعميم منفذا، فسرعان ما يتطرّق إلى النضالات التي قامت به النقابات العمالية الفرنسية في شركة “الترامواي” تكريسا لمبدأ المساواة في الأجر بين العمال الفرنسيين والتونسيين، معتبرا أنّ ما بين النقابات التونسية والفرنسية “أخوّة اجتماعية حقيقية وصحيحة”. لم يضع الثعالبي الاستعمار الفرنسي في مواجهة مع مطلبية الكيان التونسي، بل وضعه في مواجهة مع مقولات التحرر وحقوق الإنسان ذات العقلية الفوقية يعيدها الثعالبي إلى مبحث اللغة والثقافة الوطنيتين، فيشير من جملة ما يشير إليه، إلى أنّ الاستعمار الفرنسيّ يعمد إلى تذويب الثقافة الوطنية وطمس اللغة العربيّة وخلق أجيال منبتة عن حضارتها وتاريخ بلادها. حيث يؤكّد أنّ الاستعلاء الاستعماري يستحيل غشاء يحول دون النظر إلى مناقب الأمم وتراكمات الحضارة الأصيلة، ويمنع فعل التفاعل بين الحضارات وهو في هذا المقتطف بالذات يستبق فلاسفة “التذاوت الحضاري” و”الحوار بين الثقافات” بمقولات أكثر جرأة بكثير. مع كل هذا فإن نص “تونس الشهيدة”، نص حجاجي بامتياز، فدون كثير نظر وتمعّن في الأرقام التي استعملها الثعالبي للاستدلال على الحالة الاستيطانية والاحتلالية للوجود الفرنسي في تونس، وهي أرقام من مصادر رسمية فرنسية عاملة في تونس، ودون عودة أيضا إلى الحالات الكثيرة التي استعرضها الثعالبي للمحاججة على ضعف العمل في المحاكم التونسية، إضافة إلى قدرته الملحوظة باعتباره محاميا على استقراء العمل في دوائر التقاضي في الحاضرة تونس والمحافظات، فإن الراحل استخدم متلازمة “حجّة المرجع” في كافة المباحث التي تطرق إليها في تونس الشهيدة. مطالب متقدمة على عصرها هنا لا بد لنا إلى أن نتقدم إلى سنوات الستينات من القرن العشرين، أي أشغال الألسني شاييم بيرلمان في أنواع الحجج وتقعيداته الجديدة خلافا لتأصيلات أرسطو الكلاسيكية، حتى نتعرف إلى حجة المرجع باعتبارها واحدة من أهم الحجج المستخدمة في صيغة الدفاع عن الرأي. فحجة المرجع تعني “اقتباس موقف من جهة ذات استقلالية ونفوذ رمزي تتيح له قوّة الفصل في القضايا الخلافية”. الثعالبي استخدم هذه النوعية من الحجج مستندا إلى مراجع قوية والأكثر من ذلك أنها مراجع فرنسيّة. فاستدلّ بمراسلة النائب الفرنسي فيني دوكتون في 1911 لوصف الحالة المزرية التي عليها عاملو شركات استخراج الفوسفات في قفصة والرديف والمظيلة وغيرها من الأماكن القاسية. واستند إلى أقوال الاقتصادي الفرنسي فوكون حتّى يتحدّث عن استيطان الأرض التونسية واستخراج خيراتها بأقل الأثمان واستثمارها في أوروبا بشكل عامّ، واعتمد مقولة جول فيري في 1 أبريل 1884 بأنه لن يكون هناك أي استثمار مجاني لأملاك الدولة عند البرهنة على الطبيعة الاحتلالية والاستغلالية للوجود الفرنسي، إضافة إلى تصريحات ديماس رئيس المحكمة المدنية في فرنسا عند التطرق إلى الوضع المزري للمحاكم التونسية. في بلاغ الثعالبي للفرنسيين استحثاث على تأمين "نظام دستوري قائم على المسؤولية والفصل بين السلطات" مع مصفوفة طويلة من المطالب الموجودة في نهاية "تونس الشهيدة" بهذا المعنى نفهم الأسباب التي بمقتضاها جعلت بعض المؤرخين يعتبرون أن تونس الشهيدة لا يعود إلى الثعالبي بل إلى المرحوم أحمد السقا حيث أنّ النص مضبوط ومصقول بلغة فرنسية رائعة ومتينة والشيخ الثعالبي، على إحدى الروايات، لا يحسن الكتابة باللسان اللاتيني. ودون دخول في محايثات وسجالات تاريخية تحتاج إلى عُدّة توثيقية واسعة، فإنه يمكننا القول إن تونس الشهيدة بلاغ تونس للعقل والثقافة الفرنسية أكثر منه بلاغا تونسيا باللغة الفرنسية. فالنصّ يحتاج إلى مقاربات لغوية وأنثروبولوجية وقانونية وحداثية وتواصلية لفهمه بالعمق الذي كتب من أجله إبان العشرينات من القرن الماضي. في بلاغ الثعالبي للفرنسيين استحثاث على تأمين “نظام دستوري قائم على المسؤولية والفصل بين السلطات” مع مصفوفة طويلة من المطالب الموجودة في نهاية “تونس الشهيدة”، وفي بلاغ الثعالبي للتونسيين دعوة إلى تملك سبل الاستنهاض واستدرار مقومات الكرامة والتنمية. وهي سبل خمسة لخصها الثعالبي في الكتب والمطابع والمدارس والجرائد والجمعيات. وبالسياق الراهن هي الثقافة والنشر والتعليم والإعلام والمجتمع المدني. مرّ قرن على كتاب الشيخ عبدالعزيز الثعالبي، حصل الاستقلال ولا تزال حماسة عبدالعزيز الثعالبي معطلة أو معلقة إلى حين قراءة ثانية أو نص ثان من قيمة وقامة تونس الشهيدة.
مشاركة :