جيد جدا أن تكون في مصر أجواء صاخبة وزخم كبير مصاحب للانتخابات الرئاسية، لكن السيء أنها ليست أجواء حقيقية. كان من الممكن إخراج الانتخابات بشكل يبرز تعددية واقعية قائمة على منافسة تعيد تشكيل المجتمع السياسي الراكد منذ 2013. الأحزاب وجماعات الضغط والنشطاء عاجزون في مصر. هذا حقيقي. لكن الدولة لعبت تاريخيا الدور الأكبر في تفريغ هذه الطبقة السياسية المصرية من أي عمق أو قدرة على تقديم مشروع حقيقي. سيكسب الرئيس عبدالفتاح السيسي أصواتا تؤهله لبدء الفترة الثانية من حكمه، لكنه سيخسر شعبيته التي لا تزال كبيرة، إذا ما استمر في انتهاج نفس السياسات. توسيع نطاق الانفتاح في البلد لا يكون عبر إغلاقه. ثمة رجوع إلى الخمسينات والستينات في نظرة طبقة الحكم في مصر إلى العالم، وإلى إدراك أبعاد دور مصر وما تمثله. إذا كانت الانتخابات التي تجرى اليوم مجرد عقبة إجرائية يجب تجاوزها من أجل استكمال نفس المسار، فسيقود ذلك إلى غياب استقرار حتمي قد يقود إلى انفجار. لا أعرف متى قد يحدث الانفجار، لكني أدرك تماما كيف يحدث. الانفجار هو نتاج ضغط زائد في مكان لا توجد فيه فتحات لتسريب البخار. يكاد هذا البخار يغطي المجال العام في مصر إلى درجة بدأت تشوش الرؤية، وعندما تغيب الرؤية الواضحة تصطدم مكونات المجتمع وتقع الخسائر وتعود الفوضى. في 2013 كان الرئيس السيسي “منقذا” من سيناريو مماثل، لكنه لم يتمكن من الانتقال من سلوك “المنقذ” إلى تفكير الرئيس، تماما كما لم يتمكن معارضوه، الذين وصفهم بعدم القدرة على تقديم مرشحين منافسين له، من التحول من نشطاء إلى سياسيين. لا أحد يطالب بديمقراطية كاملة. تصور تطبيق ذلك الآن في العالم العربي هو انسياب في السذاجة وموت لأي نضج. لكن أقل ما يمكن اليوم هو السماح للناس بتعلم ماهية الديمقراطية، وكيف يصبحون أحرارا. مشروع السيسي سيغير وجه مصر تماما. الإصلاحات الاقتصادية التي تبناها منذ صعوده إلى الحكم خلقت حركة سريعة بين طبقات المجتمع. ثمة ملايين يعانون فعلا من هذه الإصلاحات، لكن ملايين غيرهم يصعدون سلم المجتمع بثبات. حتمية هذه الإصلاحات ليست خيارا بل هي قدر. ليس ذنب السيسي أنه وجد نفسه أمام مقود السيارة وهي في طريقها إلى حافة الجبل. ماذا كان يُنتظر منه؟ هل يتركها تنزلق بكل ركابها مثلا أم يتشبث بالمقود بكل ما يملك من قوة لتغيير اتجاهه قدر المستطاع؟ هذا التغيير جاء مفاجئا ولم يكن تدريجيا، لذلك شعر المصريون بقسوته. لكن يبدو أنه لم تكن ثمة بدائل من الممكن أن تعيد وضع مئة مليون شخص مرة أخرى على الطريق الصحيح. رصيد الجيش في العقل الجمعي المصري جعل الناس تتغاضى عن الأخطاء المصاحبة لذلك الصخب والفوضى اللذين يحددان شخصية التغيير الحاد كما يحدث اليوم رجال الحكم في أي دولة هم إفراز للمجتمع والمؤسسات الممثلة للسلطة. في بلدان عدة في المنطقة، توقف هذان الجناحان على إنتاج القادة الوطنيين القادرين على توحيد مكوناتها، فانزلقت سريعا إلى فخ الاقتتال الداخلي. في مصر ظلت المؤسسة العسكرية هي مصدر السلطة بلا منازع. ليس نتاجا لوضع يدها عليها، لكنها مازالت تستمد اعترافا من المصريين يؤهلها للعب هذا الدور. السيسي مرآة هذه المؤسسة، وهي انعكاس له. رصيد الجيش في العقل الجمعي المصري جعل الناس تتغاضى عن الأخطاء المصاحبة لذلك الصخب والفوضى اللذين يحددان شخصية التغيير الحاد كما يحدث اليوم. لا تكمن المشكلة في الطبيعة الإجرائية للتغيير، بقدر ما تتمثل بوضوح في ثقافته. مشروع السيسي، بكل عيوب الاقتراض الضخم ومستوى الإنفاق الهائل على مشاريع البنية التحتية وسحق طبقة الفقراء بفعل التضخم، لم يأخذ في الحسبان عقودا من غياب تثقيف مؤسسات الدولة وكبار الموظفين بأن مصر تعيش مرحلة انتقالية طويلة. حشد الشارع من أجل المشاركة الكبيرة في الانتخابات بحث عن الشرعية. هذا أمر بديهي ومشروع. لكن المشكلة أن الشرعية بطبيعتها وسيلة مساعدة لتحقيق غاية أكبر. المشاريع السياسية الطموحة لا تستكمل إلا بتجديد الشرعية، لكن محاولة تخطيها قد تخلق نتائج عكسية. إذا كانت الشرعية المطلوبة اليوم في مصر مقدمة لتغيير الدستور لاحقا، عبر تعديل المادة التي تحدد مدة الرئاسة بفترتين، فسيكون السيسي قد فقد الشرط الذي بني عليه توافق المصريين حوله، وهو أن حكمه جزء من المرحلة الانتقالية التي مازالت مصر تعيشها منذ تولي حسني مبارك الحكم عام 1981. انتهاء “تثبيت الدولة”، بحسب إعلان الرئيس السيسي في فيلم دعائي مؤخرا، هو بداية نهاية مهمته الأساسية في الحكم. الانتقال إلى الفترة الرئاسية الثانية يجب أن يكون ممهدا بهذا الفهم أولا حتى يتم تأسيس العقد الاجتماعي لهذه الفترة على قواعد صحيحة. هذه القواعد يجب أن تتغير طالما اللعبة تغيرت. منح مساحة مستقلة لوسائل الإعلام أول مؤشرات التغيير. مركزية وسائل الإعلام في مصر استثنائية. هذه كيانات حولها الفراغ السياسي، منذ تجربة “العاشرة مساء” عام 2005، إلى أحزاب سياسية. كل معلق سياسي أو مقدم برنامج “توك شو” صار لديه أتباع تفوق أعدادها أعرق الكيانات السياسية المعارضة. يجب على القائمين على السلطة أن يدركوا أيضا أن الحياة السياسية ليست رفاهية. لا يجب أن يفاجأ الرئيس بأن الناس لم تعد تستطيع الكلام. في الحوار الشهير مع المخرجة ساندرا نشأت، بدا أن الرئيس السيسي لم يكن يعلم أن الخوف من السجن صار ثقافة في الشارع. التعهد بمعالجة ذلك يوحي بأن طبقات البيروقراطية الأمنية العريقة صاحبة القرار في مصر تكافح لعزل الرئيس عن الناس. هذا المسار يفضي حتميا إلى قدر واحد، أكثر من يستطيع تحليله ووصف تبعاته هو حبيب العادلي! نعم، الرئيس السيسي حقق في أربع سنوات إنجازات لم يستطع السادات ولا مبارك الوصول إلى نصفها. سيفقد كل من يحاول انتزاع هذا الحق منه أي شيء من موضوعية أو نزاهة. الاقتصاد بدأ يقف على قدميه، الجيش لم يكن أقوى من قبل، الاحتياطي النقدي هو الأعلى في التاريخ، وثمة تقدم في الحرب على التطرف، بالإضافة إلى سياسة خارجية متزنة، لكن يشوبها الفهم الدفاعي المتردد. لو لم نر نموذجا محسنا من الحكم، واستثمارا في التعليم والصحة والخدمات العامة، وفي حرية الناس وقدرتهم على التعبير عن آرائهم بانضباط، سيزداد البخار وستنعدم الرؤية تماما.
مشاركة :