كان لافتاً للنظر الأسلوب الذي استقبل به الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضيفه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في المكتب البيضاوي، إذ بدا وكأنه رجل أعمال يعرض بضاعته على زبون، مستخدماً لوحات توضيحية وصوراً أعدها مسبقاً لهذا اللقاء، كما تحدث باستفاضة تسويقية في قوله: إن السلاح الأميركي هو الأفضل والأكثر تقدماً في العالم، وبلغة البائع قال أيضاً، مازحاً: إن قيمة هذه المعدات لا تشكل لكم مشكلة في السعودية؛ نسبة إلى ثروتكم! ترامب كان يقدم ملخصاً لعدد من الاتفاقات الدفاعية الموقعة أصلاً بين البلدين، ومعظمها متفق عليه منذ سنوات سابقة لولايته، وكان في واقع الأمر يريد استغلال فرصة تزاحم كاميرات ومايكروفونات الإعلام الأميركي لتوجيه رسالته التسويقية إلى الجمهور الأميركي، بحيث أطلق الكلمة السحرية، التي يريد الأميركيون سماعها، وهي أن هذه الاتفاقات أمنت وستؤمن 40 ألف فرصة عمل. هذه الدقائق من البث المباشر يتيحها البروتوكول الأميركي في استقبال قادة الدول الزائرين، للجمهور للاطلاع على ما يمكن أن يكون مهماً لهم في استقبالات البيت الأبيض، ويجدها الصحافيون فرصة لطرح أسئلة مباشرة على الرئيس، قد لا تكون لها علاقة مباشرة بموضوع الزيارة، بل إنهم قد يسألون عن قضايا محلية صرفة. الذين طالعوا هذه الدقائق ربما لم تفتهم ردود فعل الأمير محمد بن سلمان الباسمة والمهذبة تجاه حديث الرئيس عن قيام صفقات الأسلحة ونوعياتها، ثم تعقيبه بالإشارة إلى أن العلاقة التاريخية بين البلدين إنما قامت على المصالح الاستراتيجية المتبادلة التي كانت دائماً تركز على معالجة التحديات التي يواجهها البلدان معاً، ووجه في تعقيبه رسالة مهمة مفادها أن المملكة العربية السعودية ليست مجرد زبون للسلاح الأميركي - على أهمية التعاون الدفاعي- وإنما تسعى إلى تطوير مصالح استثمارية مشتركة تبلغ قيمتها مئتي بليون دولار في البلدين، على اعتبار أن الاستثمار المباشر هو طريق ذو اتجاهين. وما لم يقله القائد السعودي أمام عدسات الكاميرات في البيت الأبيض قاله في زيارة خاصة لصحيفة «واشنطن بوست» واجتماعه بهيئة التحرير فيها، والتي نقلت أجزاء من حديثه، قائلة إنه حتى مع قول ترامب أنه يسعى إلى زيادة استثمارات السعودية في الولايات المتحدة ومشترياتها من المعدات العسكرية، فإن الأمير السعودي قال بوضوح إن مهمته الرئيسة تتمثل بكسب ثقة المستثمرين الأميركيين في بلاده، إضافة إلى التعاون العلمي والتقني، الذي يخدم خطة التحول الوطني السعودي. وأضافت «واشنطن بوست» أن الأمير، الذي بدا حيوياً ومتفاعلاً خلال زيارته الصحيفة، أجاب على كل الأسئلة في مواضيع حرب اليمن، والسلام في الشرق الأوسط، وإيران، وخطته للإصلاح في بلاده، وحقوق الإنسان، والبرنامج النووي السعودي. وقالت الصحيفة إن الجزء المحوري في زيارة ولي العهد السعودي للولايات المتحدة، التي تستغرق نحو الثلاثة أسابيع، سيتمثل بوقفاته المتتابعة في بوسطن ونيويورك وسياتل ووادي السليكون ولوس أنجليس ثم هيوستن، على التوالي. والحقيقة التي لا يريد أن يفهمها كثير من المعلقين العرب على هذه الزيارة هي أنها تمثيل صادق للرؤية السعودية المستقلة في علاقتها مع أصدقائها وحلفائها، وأن ما تحاول أن تصوره القنوات التلفزيونية، التي تبث من إسطنبول أو من جزيرة قطر، من أن السعودية تتلهف على فتح خزائنها لتجار السلاح، الذين يصرح لهم البنتاغون بالبيع، هو أبعد ما يكون عن الحقيقة، ولعل في عبارات الرئيس ترامب التسويقية ما يشير إلى إدراكه الخيارات التي تمتلكها الرياض، ولعل من المفيد لهؤلاء أن يدركوا أن المنظومة الدفاعية والقتالية للقوات السعودية، التي تم بناؤها على مدى عقود، هي التي سمحت بالوقوف في وجه الأطماع التوسعية لنظام الملالي، وأن يتذكروا أن صناع القرار في واشنطن كانوا أكثر المتفاجئين بانطلاق عمليات «عاصفة الحزم»، الأمر الذي جعل إدارة الرئيس السابق أوباما تسارع لتدارك موقفها بتقديم الدعم اللوجيستي والاستخباري لقوات التحالف، وهو الدعم الذي حاولت قوى في واشنطن إيقافه بمشروع قرار في الكونغرس سقط بالتصويت عشية وصول الأمير محمد بن سلمان. والقرار السعودي المستقل هو الذي سيحدد أين سيتم طرح الاكتتاب الأولي لأسهم شركة «أرامكو» السعودية بناء على أفضل الظروف والشروط التي تحقق المصلحة السعودية، بل إن السعوديين قالوا صراحة إن نيويورك قد لا تكون المكان المناسب لهذا الطرح، لتعقيدات قانونية محتملة، في إشارة إلى قانون «جاستا»، كما أن القرار السعودي المستقل هو الذي سيقرر من الذي سيبني المفاعلات النووية الـ16 بناء على من سيقدم التقنية اللازمة لتخصيب اليورانيوم السعودي، والسعوديون قالوا بوضوح إن خياراتهم مفتوحة في هذا الإطار. محادثات الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الأميركي وأركان إدارته، كما هي مع قادة الكونغرس ومجلس الشيوخ، أكدت تفاهمات مستمرة في قضايا كثيرة بين الطرفين، لكن ثلاثة أرباع الزيارة ستكون في مراكز اتخاذ القرار خارج العاصمة واشنطن، مع أقطاب البحث العلمي والأكاديمي في بوسطن، ومع أساطين وول ستريت في نيويورك، وهذا في ما يطلق عليه مؤسسة الساحل الشرقي، حيث السياسة والمال والبحث العلمي. أما في الساحل الغربي، حيث الصناعة والتقنية والثقافة، فإن ولي العهد السعودي سيزور بوينغ ومايكروسوفت في سياتل، وأبل وأمازون وآخرين في وادي السليكون، وسيلتقي المؤثرين في صناعة السينما والترفيه في لوس أنجليس، قبل أن يزور عاصمة صناعة النفط الأميركية هيوستن، حيث لـ «أرامكو» السعودية استثمارات مهمة. في بوسطن وحدها كان المشهد مغايراً، إذ كان يوماً حافلاً بالمناقشات العلمية في معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT)، أسهم فيه علماء سعوديون من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ومركز الملك فيصل للأبحاث الطبية، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، إلى جانب علماء المعهد وجامعة هارفارد والجامعات الأميركية الكبرى، وفيه عرضت رؤية المستقبل لمدينة «نيوم»، وقبل هذا استضاف مركز كنيدي في واشنطن معرضاً مهماً للثقافة والفنون السعودية، أعطى فرصة للمشاهد الأميركي للتعرف إلى العمق الحضاري لبلادنا. وفي كل هذه المحطات، فإن الأمير محمد بن سلمان لم يكن متسوقاً، وإنما هو يعرض شراكات مجدية لاستثمارات واعدة يقدمها من خلال رؤية طموحة لاقتصاد متنوع ومزدهر، قائم على مجتمع حيوي منفتح على العالم والحضارات، وقادر على صناعة التغيير. * كاتب سعودي.
مشاركة :