صناعة التفاهة... النشر والنشارة!

  • 3/30/2018
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

لا يخالجني شك في أن عالمنا اليوم قد تم تأطيره ضمن مرجعية كبرى هي التفاهة التي يتم تسويقها عبر الإعلام الجديد ولها صنّاعها ودهاقنتها الكبار الذين ليس بالضرورة أن يكونوا مباشرين لما يحدث في كل أرجاء المعمورة ولا حتى قاصدين له ابتداء، وإنما هم صانعو إطاره ومؤسسو مرجعيته، فبحسب لوك فيري، في حديثه عن الرؤى الفلسفية الكبرى، يرى أن رؤية العالم وصلت إلى الحد الذي صارت فيه الوسائل غايات، وأن ذلك صار بعد أن بلغت التقنية أوجها وصارت العوالم الرقمية هي المهيمنة وبدا أن العالم يتجه إلى الدخول في ما يمكن تسميته بالفردية التقنية، وهي فردية تمنح الفرد حرية مطلقة في أن ينخرط ضمن المجتمع الرقمي كما يشاء دون حاجة إلى الإعداد المسبق ولا إلى المهارات الأولية فيما هو بصدده من اختيار، وهذه أولى الخطوات في تهيئة البيئة لأن تقبل المطروح أياً كان وممن كان، فالحرية مكفولة والوسائل متاحة. يحدث هذا في كل العالم، أي أن الأمر لم يعد ضمن فضاء له مرجعيته وشروطه، وإنما هكذا فضاء مرجعيته وشروطه شيء واحد هو امتلاك الوسيلة، وفي فضاء كوني واسع متاح للجميع، وبهذا تصبح الوسيلة غاية في ذاتها، ولم تعد طريقاً إلى غاية كما كانت في السابق. ولهذا السبب نفسه صار مفهوم الثقافة قابلًا للتحوّل من الصقل والتهذيب والتسلّح بالمعرفة إلى أن يكون القدرة على لفت الأنظار بالتافه والغريب والأكشن، ولأن طبيعة الإعلام في أساسها طبيعة تسويقية فقد كرّس الإعلام الجديد للحضور المفرّغ من كل شيء إلا مما لفت وأثار. ومن الإثارة تبدأ الشرارة الأولى لصناعة التافه والمضحك والمسلّي الذي هو بطبيعته خفيف الحمل لا يجهد العقل ولا يحتاج إلى تعمّل وتأمّل وهو قبل ذلك سريع الإعداد والتحضير، فإذا ما أضيف إلى هذه العوامل البيئة المعدّة سلفاً وحاجة الناس إلى الخروج من وطأة المؤسسات والأعمال الجادة، ظهر بذلك أن فضاء الإعلام الجديد بتحويله الوسائل إلى غايات هو الصانع الحقيقي وهو المسؤول الأوّل والإطار التنظيري لصناعة التفاهة رغم أنه في الإمكان باعتباره وسيلة محايدة أن يكون صانعاً للثقافة بشروطها الصارمة التي تبدأ بالصقل ولعلها لا تنتهي بالجودة والإتقان، بل تتجاوز ذلك إلى البناء وصناعة المعرفة وإعادة الناس إلى التفكير من جديد. ولكن من قال إن الإعلام الجديد وسيلة محايدة؟ إنه يبدو كذلك في حق النخبة وفي حق من لديهم قدر كاف من المسؤولية، أما فيما يخص الجماهير التي تتلقّى التافه والسريع واللافت، وفق التصور السابق، فإن الإعلام يفقد حياده ويصبح وسيلة لهؤلاء في الضغط على المشهد الثقافي لتمرير أدواته التي يتم من خلالها صناعة التفاهة والتبشير بها وجعلها في الطليعة، بحيث يصبح التافه هو السائد وهو المهيمن والموجّه في الوقت نفسه، وهنا تكمن المشكلة، إذ لا ضير أن يكون التافه جزءاً من الثقافة باعتباره هامشاً مطروحاً كنشارة الخشب للدلالة على أن ثمة نماذج عليا من الأشكال المصنوعة، لكن أن تتحوّل هذه النشارة الخشبية إلى أن تكون هي الشكل الأساس وهي النموذج الذي يتم التسويق له، فلا معنى لهذا إلا أنّه تم تحوّل جديد لجعل التفاهة هي المتن الثقافي استجابة لرغبة الجماهير الافتراضية التي صنع ذوقها الإعلام الجديد وجعلها لا تتقبّل إلا ما تتحقق فيه شروط التفاهة. وإذا كانت الثقافة التلفزيونية وثقافة الصورة قد أدّت، بحسب تعبير د.عبد الله الغذامي، إلى سقوط النخبة وبروز الشعبي، وربما كان ذلك في بدايته أمراً إيجابياً، فإن الإعلام الجديد، السوشيال ميديا، قد تجاوز الشعبي إلى التافه، وبدا أن العالم، في ظل هذا التحوّل، قد انتقل من التفكيك إلى التفتيت، ومن النشر إلى النشارة!

مشاركة :