كوميديا وتراجيديا في المشهد المصري

  • 3/30/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ما كان لأوسع الناس خيالا أن يمد خيوط ثورة 25 يناير 2011 على استقامتها، فيرى صور اللواء عبدالفتاح السيسي مدير المخابرات الحربية آنذاك تغطي الفضاء العام في مصر من أقصاها إلى أقصاها، فأينما تولوا فثم وجه السيسي، في لافتات قماشية تلتهم الجانب الأعظم من واجهات المنازل والمحال التجارية، وفي جداريات تخايلك في كل الطرق والمسالك، ضمن حملات إعلانية يصعب أن تكون طوعية في الاستفتاء على استمراره رئيسا لفترة ثانية، ولكن لهذا الشيء الذي جرى عنوانا رسميا هو انتخابات ينافس فيها السيسي نفسه بحماسة منقطعة النظير؛ فلا ند له. الكوميديا أن يعلن صحافيون ومثقفون لديهم استعداد فطري لامتداح أي “رئيس”، بجدية لا تستهدف السخرية، أن مؤشرات فوز السيسي كبيرة، وأنه إذا فاز فسوف يفعل كذا وكذا، وأن يتباروا في مديحه، بما يفوق ما ناله حكام مصر السابقون، بمن فيهم جمال عبدالناصر الذي ترك آلاف المصانع وبنية أساسية لم يفلح حسني مبارك في التخلص منها بالبيع. وسيظل شبح عبدالناصر يطارد أي رئيس مصري في الداخل والخارج، مهما يفعل وأينما يذهب؛ لأنه تفوق عليهم بعدة أمور منها اهتمامه بالصناعة التي خلقت وعيا شعبيا يبدأ بنزع الفلاح لجلبابه، وارتداء بدلة الشغل في المصنع “الأوفرول أو العفريتة”، وما يترتب على ذلك من الحصول على راتب شهري وعلاج ومعـاش عند بلوغ سن التقاعد، ولا تنس النزاهة وطهارة اليد والقدرة على التحدي مهما يكن العدو، ثم صار العدو صديقا وحليفا، وهي صداقة وحلف يخلوان من الكبرياء، فحتى العدو نفشل في اختلاقه حين أبدى العداوة، وهو دائما يبديها. السيناريست مدحت العدل، في حفل افتتاح مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في ساحة معبد حتشبسوت مساء 16 مارس 2018، وجه “كل التحية الواجبة والشكر اللامتناهي للسيد الرئيس عبدالفتاح السيسي”؛ لأنه أدرك أهمية القوى الناعمة “كما لم يدركها أحد من قبل”. لا أحب هذا المصطلح الذي يلوكه مسؤولون عن إدارة الثقافة، في استهلاك مجاني فارغ من المعنى، كما لا أتجنب أفعل للتفضيل، ويدهشني هذا اليقين الذي يدين قائله، وهو يتجاهل تجربة التأثير المعنوي العلمي والتعليمي والثقافي والفني والديني في مصر عبدالناصر، ويجهل العمق التاريخي لهذا التأثير، والذي يعود إلى مصر القديمة. يذكر تريفور برايس في كتابه “رسائل عظماء الملوك في الشرق الأدنى القديم.. المراسلات الملكية في العصر البرنزي المتأخر” أن تحتمس الثالث، بعد انتصاره في معركة “مجدو” في شمال فلسطين عام 1468 قبل الميلاد، استقبل 300 أمير آسيوي أرسلهم آباؤهم إلى مصر بهدف “تعليمهم تعليما لائقا بهم كأبناء أمراء، وتعويدهم على أسلوب ونمط وثقافة الحياة المصرية، ولإعدادهم إعدادا ملائما لتولي الحكم بعد آبائهم على المقاطعات التي وفدوا منها.. كان بإمكانهم الاضطلاع بدور حيوي في حماية مناطقهم بأنفسهم، بل التوسع الجغرافي لصالح الملك الأعظم” (ص 78، ترجمة: رفعت السيد علي). ليس مدحت العدل وحده صاحب المبادرة بالمبالغة في الإشادة بالسيسي، ففي هذه الفتنة سأختار نماذج من صحيفة واحدة هي الأهرام، في يوم واحد هو الثلاثاء 27 مارس 2018، وأصحابها شبعوا أياما ومناصب وتزلفا لمن يستحق ومن لا يستحق، أولهم صلاح منتصر الذي قال إن السيسي “أول رئيس نشر اسم مصر وعلمنا أن نهتف بحياة مصر”. أما مصطفى الفقي فألح على النبوغ القديم للسيسي، عام 2006 وهو برتبة عميد، إذ كتب دراسة عن الديمقراطية في الشرق الأوسط بكلية الحرب التابعة للجيش الأميركي في بنسلفانيا، وحين وقعت في يديْ الفقي تلك الدراسة “شعرت أنني أمام كنز حقيقي لأننا سوف نكون قادرين على استكشاف الرؤية المبكرة للرجل الذي يحكم مصر… قبل أن يعود (من أميركا) ليكون رمزا للفداء”. ولم يكن مكرم محمد أحمد بعيدا عن هذا السياق، ومديحه الدائم أهون بكثير من وصفه لمعارضي التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير المصريتين، بأنهم “خونة شككوا في وطنية القيادات”، وهي فتنة شملت علمانيين ورجال دين أفتوا بما لم يحيطوا به علما، فأحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن والشريعة بجامعة الأزهر، كتب أن الجزيرتين وديعة يجب ردها إلى أصحابها، ثم استمرأ الفتوى السلطانية، فقال إن من لم يشارك في الانتخابات “هو من الخوارج، وهو محرّم ومجرّم”، وهي فتاوى تضاف إلى فتواه بخصوص استتابة المرتد قبل قتله، وتجعلني أنفض يدي منه، حتى في مجال تخصصه، ليلحق بيوسف القرضاوي الذي يقدم فتاوى أميرية قطرية حث في إحداها على أن من يعملون مع نظام بشار الأسد “يجب أن نقاتلهم جميعا، عسكريين مدنيين، علماء جاهلين”. نرفض القرضاوي الصريح، ونربي من تستهوي فتاواهم السيسي، فيرغب عن سماع رأي مخالف، ولو من متخصص، وتكرر هذا في لقاءات جماهيرية أخرجته من وقار المنصب وهيبته إلى تلقائية المتعصب الغضوب، ولكن أيا من مادحيه وقد تجاوزوا سن الثمانين، التي تنزع الخوف على فضل الأعمار، لم يحاول أن يتأسى بأرسطو وهو ينبه الإسكندر الأكبر “تذكر أنك إنسان”. قبل أن يتولى السيسي الحكم رسميا كتبت في صحيفة “العرب”، في 29 يناير 2014، مقالا عنوانه ” كلام للسيسي.. سنحتاج إليه، إلى الكلام طبعا” قلت إن “الجنرال السيسي وعد وقال كلاما معسولا، قبل 30 يونيو2013 وبعدها… ولكن ثمرة 30 يونيو تذهب الآن في اتجاه آخر”. وحين أحجم الشعب عن الانتخابات السابقة، كتبت في 29 مايو 2014 مقالا عنوانه “فلسفة الشعب.. تحذير مبكر للسيسي”، قلت إن درس الانتخابات أن الشعب “لا يقبل مستبدا ولو كان عادلا”. وفي مقال عنوانه “هتاف الصامتين في مواجهة الجهل والعناد”، في 30 مارس 2017، اعتبرت الثلاثاء 7 مارس 2017 يوما للغضب، وكانت الجماهير في عدة محافظات تظاهرت دون اتفاق على تخفيض حصة الخبز، في انتفاضة رمزية لعلها “مجرد بروفة”، رسالة تحذير تقول “إن هناك آمالا لا تخبو في الرهان على ما تبقى من أحلام الثورة المجهضة، وإن الجماهير لا تخرج إلا إذا فقدت الأمل، أو واجهت موتا مؤكدا؛ فتكون الشجاعة أولى من ذل انتظار النهاية”. أخذتني الكوميديا والفتاوى الدينية الانتخابية من الشق التراجيدي في فتنة السيسي، فهو أول رئيس ربما في العالم يسبقه تأييد غير محدود، وتباع صوره وبطاقاته الرمزية في الشوارع، ولكنه تفنن في تبديد هذا الرصيد، وأضاف إلى التراجيديا التي يندفع بطلها إلى مصير لا تحول دونه الأقدار، كوميديا أخرى، وفيها أصر الرئيس والحكومة والبرلمان وكتبة النظام ومماليكه المثقفون على إثبات أن أرضا مصرية ليست مصرية، واستهين بحكم قضائي نهائي، ثم أدهشهم إعراض الشعب عن الاستفتاء المسمى انتخابات.

مشاركة :