نحو تجديد النظر في «تحقيق النص التراثي»

  • 3/31/2018
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لا شك في أن الوقت قد حان لتجديد النظر في المقاربة الرئيسة للنص التراثي التي نطلق عليها اليوم «تحقيق» والتي كانت تُعرف تراثيًّا بـ «قراءة»؛ لنكرِّسها حقلًا معرفيًّا واسعًا، يجعل منها علمًا، إضافة إلى كونها صنعة، فنخرج بذلك من حال السُّكون المريب الذي نراه، ونستبشر بأن نشهد في وقت ليس ببعيد حالًا أخرى، يحظى فيها التحقيقُ بالمكانة اللائقة بعمل علمي رفيعِ المستوى، لكنه -للأسف- امتُهن وكثر أدعياؤه. ولن يكون ذلك إلا بالتفكير النظري الذي يثير الإشكاليات، ويحاول تجاوز الجدار العالي والسميك للإجراءات وترتيبها وتأكيد أهميتها، وللكلام المكرور المعاد بما يلزم المحقق من معرفة وثقافة وخبرة بالمصادر وصبر وأمانة ويقظة وحذر. إن المتابعة لما صدر ويصدر من الكتب المؤلفة في التحقيق، ومُداومة المطالعة لما جاء فيها تدل على أن ما تقذف به المطابع بين الحين والآخر في هذا المجال، إنما هو كتابٌ واحد. نعم كتابٌ واحد، لكن يُعاد في كل مرة تحريرُه، أعني صياغَته، فيُقدَّم فيه ويُؤخَّر، ويُخْتَصر ويُطوَّل، ويُزاد في أمثلته ويُنوَّع، لكنه هو هو، لم يتغيَّر فيه شيء، سوى غلاف جديد بألوان جديدة، واسم جديد! على أنَّ الصياغة الجديدة، سواء فهمناها على أنها الصياغة المنهجية، بمعنى ترتيب المادة العلمية وتنظيمها وتوزيعها، أو على أنها الصياغةُ اللغوية - ما كانت في الحالين أحسنَ من سابقاتها، أو أكثر قدرة على أداء وظيفتها في خدمة أغراض التأليف التي نَعرف من التقريب والإحكام والتوضيح والتفصيل وحَلِّ المشكلات... إلخ. لذلك كان الحكمُ على هذه الكتب التي تناسلت من بعضها بأنها كتابٌ واحد - حكمًا عادلًا، لا افتئات ولا تَجنِّيَ فيه؛ إذ كيف نحکم لها بغير ذلك، وهي ما وصلت إلى أدنى أغراض التأليف التي ذكرنا، فضلًا عن أن تبلغ أعلاها من أصالة الرؤية، وجِدَّة المادة، واستقلال المنهج، وخصوصية الغرض. مثل هذه الكتب يُغني أحدها عن جميعها. ولا أدلَّ على هذا الذي نقول من أن عناوينها – وهي أظهرُ ما فيها – تكاد تكون عنوانًا واحدًا، يزيد حينًا كلمة، وينقص حينًا كلمة، وتستبدل بكلمة فيه كلمةٌ أخرى حينًا. ويبلغ التغيير والتحديث مداه بإضافةٍ تَقْرِن بينه وبين موضوع آخر، مثل «البحث العلمي»؛ لأنَّ هذا الأخير أوسعُ دائرةً؛ إذ التعامل مع النص التراثي نوعٌ من أنواع هذا البحث تحكُمُه تاريخيةُ النص، بما يعنيه ذلك من وثائق (مخطوطات) وتوثيق، وخدمة، تُقَرِّب المادة للمستقبِل المعاصر. منذ أن وضع برجستراسر وهارون والمنجد متونهم الذائعةَ في أصول نقد النصوص ونشرها، وتحقيق النصوص، وقواعد تحقيق المخطوطات، في ذلك الزمن المبكر بين الربع الثاني من النصف الأول، والربع الأول من النصف الثاني من القرن الماضي - صار تأليف كتاب في التحقيق مُرْتَهنًا – غالبًا – بالجامعة؛ وبمقرَّر يقوم عليه أستاذ يدرِّس مناهج البحث أو مادةَ تحقيق المخطوطات، فكان الأستاذ يُشَمِّر عن ساعد الجِدِّ، وينظر في الكتب السابقة؛ ليُخرج لنا كتابًا منسوبًا إليه، بيد أن هذا الكتاب لا يلبث أن يفكَّ حصار الطلاب وجدران الدرس؛ ليشيعَ بين الناس، فيزداد بذلك الرصيد الكمَّي لمكتبة التحقيق، لكن من دون أن يزداد الرصيد المعرفيُّ، أو يجدَّ فيه أمرٌ ذو بال. لقد تضخَّم عدد الكتب المؤلفة في التحقيق، لكنَّ أساسها الذي قامت عليه كان – كما رأيتَ – هو التعليم، لا العلم، لذلك رأينا أنفسنا في مواجهة كتب تعليمية، أشبهَ بالمتون التي كان يؤلفها القدماء لتكون بين أيدي الطلاب في مُسْتَهَلِّ نظرهم في العلوم، تُقَدِّم لهم الأسس التي يُفترض أنْ تؤهِّلهم بعد سنين لمطالعة كتب النظر العميق والمناقشات والخلافات، التي تَرْقى بهم بعد حين للمشاركة في العلوم وإثرائها. لم تُؤَدِّ كتب التحقيق إذن وظيفتها، وصار يُنْظَر إلى ما جاء فيها على أنه الغاية، فضاق الخِناق على «التحقيق»، وصار مُجرَّد أداة وصنعة تقليدية ينقلها السابق إلى اللاحق، وكان حقُّه أن يغدو هو في ذاته مجالًا معرفيًّا رحبًا، بل إنَّ الصنعة ذاتَها وأدواتِها – أيضًا – لا بدَّ من تجديد النظر فيها؛ لتصبح أكثر قدرةً على أداء وظيفتها، وأعلى استجابة في الوفاء بما يُطْلَب منها. ثم إن هذه الصنعة وأدواتها لا يمكن أن تتجمَّد، أعني أن للصنعة آفاقًا، وأن امتلاك الأداة وحده لا يكفي، بل لا بدَّ من إجادة استخدامها، وإجادةُ الاستخدام إنما تكون بوساطة نظر أصحاب النظر والخبرة والتجربة، وإلا فإن الجمود وتحنيط الأداة كفيلان بإماتتها وتجاوز الزمن لها! إن التحقيق اليوم في حاجة إلى أن يتأسَّس حقلًا معرفيًّا، ليس من باب التَّرف، ولا من باب تحويل الوسائل إلى مقاصد، ولكن من باب أن إشكاليات النصوص لاتنتهي، وأن مقاربات هذه الإشكاليات يمكن أن تتعدَّد وأن تتفاضل. وقبل ذلك كلِّه، فإنَّ من حق المعرفة؛ أيِّ معرفة أنْ تُؤصَّل نظريًّا، وتُكشف فلسفتها، وهو ما يؤثِّر إيجابًا على موضوع المعرفة ذاتِها، حتى لو كانت وسيلة من جهة، وعلى ما تصل هذه الوسيلة بنا إليه، أعني مقاصدها، أو الغاياتِ التي تسعى إليها من جهة أخرى. إن التعريف الذي صاغه هارون مثلًا ما زال هو التعريف المعتمد لدى الجميع، بل إنه تعرض للاختزال حينًا، وأصابه التشويش حينًا آخر، واختلط وفسد حينًا ثالثًا! وما ذاك - أعني حالَ التعريف، وحال قضايا التحقيق - إلا لأسباب ثلاثة: أولها: الرُّكون إلى الدَّعة، وهو ركونٌ ليس قصرًا على «التحقيق» فالعلم والبحث العلمي العربي كلُّه يعاني من هذه الحال. وثانيها: الانشغال بالعمل عن النظر، فالباحثون يحذو بعضهم حَذو بعض معتمدين على التقليد، ومستغنين عن «النظرية» فهم في عجلة من أمرهم لإنجاز تحقيق نص، أو الحصول على درجة علمية. وثالثها: الاستهانة بالتحقيق، فما هو إلا أداة، وما تحته مجرد صنعة، التجريبُ كفيل بها، واكتساب الخبرة اللازمة لها أمر هَيِّن وقريب. وقد ارتدَّ هذا كلُّه سلبًا على الأمرين معًا: النَّظرِ، والعمل، فجمد الأول، وتدنَّى مستوى الآخر. وكان أن تراجعت قيمة التحقيق، ونُظر إليه على أنه عمل آليٌ، يقوم به أيُّ أحد، وإذن فهو ليس جديرًا بأن ينال به طالبٌ درجةً، أو أستاذٌ ترقية علمية! لذلك كان ما دعونا إليه من ضرورة التجديد والتفكير النظري لإعادة الحياة لهذه المقاربة التي في انتظارها عشرات الآلاف من النصوص التي تنتظر أن تُبعث من جديد ليتحقق استثمارها والإفادة منها على الوجه العلمي الصحيح.

مشاركة :