كما شكل التطبيع الرياضي بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية في ستينيات القرن الماضي الرافعة التي شقت طريق العلاقات بين الدولتين العظميين توجت بالزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون لبكين في عام 1972 ولقائه الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، حيث فتحت هذه الزيارة آفاق العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية بين البلدين، ورغم الخلافات الآيديولوجية والسياسية والاقتصادية وتضارب مواقف البلدين وتناقضها حيال العيد من القضايا الإقليمية والدولية، فإن قطار العلاقات بين البلدين لا يزال مستقرا على سكته التي نصب فوقها بعد أن تمكنت الرياضة من كسر الجليد الصلب الذي طغى على علاقات البلدين منذ انتصار الثورة الصينية عام 1949 ووصول الشيوعيين الصينيين إلى سدة الحكم فيما فاقمت الحرب الكورية والحرب العدوانية الأمريكية ضد فيتنام الشمالية (الشيوعية) من حدة الخلافات والتناقضات بين البلدين. مرة أخرى تدخل الرياضة معترك الاضطراب السياسي الذي يسود العلاقات بين الكوريتين على خلفية البرنامج النووي والصاروخي لكوريا الشمالية وموقف الولايات المتحدة الأمريكي الرافض لهذا البرنامج وما يرافق هذا الموقف من تهديدات صريحة بتوجيه ضربة عسكرية أمريكية للمنشآت العسكرية والنووية الكورية الشمالية وتهديد الأخيرة بالرد على أي هجوم باستخدام أسلحتها النووية. في خضم تصاعد الجدل العسكري والسياسي بين البلدين وحضور كوريا الجنوبية كحليف لأمريكا في هذا الملف، جاءت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي نظمتها كوريا الجنوبية مؤخرا لتفح بريق من الأمل للخروج من المأزق الكوري، حيث أرسلت كوريا الشمالية وفدا رفيع المستوى إلى هذه الألعاب رأسته شقيقة الزعيم الكوري الشمالي. كوريا الجنوبية التي تعرف جيدا مدى الخطر المحدق بها في حال حدوث صدام عسكري بين أمريكا وكوريا الشمالية، التقطت المبادرة الكورية الشمالية بإيجابية فأرسلت هي الأخرى وفدا رفيع المستوى إلى جارتها الشمالية ودفعت باتجاه تخفيف حدة التوتر بين واشنطن وبيونج يانج حيث لاحظ المراقبون في الفترة الأخيرة تغيرا في لهجة الخصمين اللدودين، حيث أعرب كل منهما عن استعداده لإجراء حوار غير مشروط على أعلى المستويات بين زعيمي البلدين، وإن كانت أمريكا لم تبد أي تنازل عن موقفها الرافض لامتلاك كوريا الشمالية أسلحة نووية، حيث تعتبر هذه الأسلحة خطرا حقيقيا على مصالحها ومصالح شركائها في المنطقة وفي مقدمتهم اليابان وكوريا الجنوبية. الألعاب الأولمبية الشتوية في كوريا الجنوبية لعبت دورا مؤثرا في إحداث ثغرة في جليد العلاقات، ليس بين الكوريتين فحسب وإنما في موقف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الاستعداد لحل الأزمة الكورية بالطرق الدبلوماسية وبعيدا عن لغة التهديد والوعيد التي تسلكها الإدارة الأمريكية تجاه كوريا الشمالية، هذه الثغرة وإن لم تكن واسعة في بداياتها، إلا أن تأثيرها بائن في مواقف الأطراف الرئيسية من الأزمة، إذ يلاحظ تغير في نبرة التصريحات الصادرة من هذا الطرف أو ذاك فيما يتعلق بالأزمة نفسها، وكما سبق القول فإن إعلان استعداد الأطراف للجلوس حول مائدة المفاوضات لبحث الأزمة يعد في حد ذاته خطوة نوعية إلى الأمام وخاصة بعد التصعيد الخطير بين الجانبين، أي بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية. فموقف كوريا الجنوبية من علاقاتها مع جارتها الشمالية واضح وصريح، فهي من جهة ترفض تحويل شبه الجزيرة الكورية إلى منطقة صراع وسباق نووي، كما ترفض برنامج التسلح النووي لكوريا الشمالية رفضا مطلقا وتعتبره خطرا حقيقيا على مستقبلها ومستقبل واستقرار المنطقة بأسرها، ولكنها في نفس الوقت تبدي موقفا مرنا تجاه مسألة تطبيع العلاقات بين الكوريتين وباشرت في فترة من الفترات مشاريع اقتصادية مشتركة بين الجانبين وعزز الطرفان من برنامج لم شمل العوائل الكورية التي أصابها التشتت في الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، وهي قضية تعتبرها كل من سيئول وبيونج يانج من القضايا الوطنية التي تعني شعبي البلدين بالدرجة الأولى. فكوريا الجنوبية، كما هو حال الشمالية، تعرف كل منهما أن مصلحتهما تكمن في تطبيع العلاقات بين الجانبين والسير في مشاريع اقتصادية واجتماعية ورياضية مشتركة تمهد الطريق نحو تحقيق حلم توحيد الكوريتين، نقول حلم لأن التوحيد في ظل التباين العميق بين البلدين في الكثير من الجوانب، يعد صعب المنال، ولكن التطبيع ووضع علاقاتهما في موقعها الصحيح ليس بالأمر المستحيل، وخاصة أن هناك عوامل مشتركة كثيرة، فما يجمع الشعبين في الكوريتين أكثر مما يفرقهما، ذلك أن أسباب الفرقة تعتبر طارئة وحديثة وهي نتاج التطورات السياسية في البلدين في خمسينيات القرن الماضي، وما صاحب ذلك من حرب مدمرة أقل ما يمكن وصفها بأنها نتاج الحرب الباردة التي كانت مستعرة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في تلك الحقبة. السؤال: هل تترك الولايات المتحدة الأمريكية للكوريتين خيار تطبيع علاقاتهما واستغلال المناسبات الرياضية وغيرها لتحقيق ذلك؟ الولايات المتحدة لها مصلحة في تأجيج الوضع في المنطقة بشكل عام والعلاقات بين الكوريتين بشكل خاص، فهي تبيع كوريا الجنوبية واليابان أسلحة بمليارات الدولارات، ولوبي الصناعة العسكرية في أمريكا لا يريد أن يفرط في هذه السوق المربحة أضف إلى ذلك فإن توتر الوضع في المنطقة يعطي المبرر للإدارات الأمريكية لعقد المزيد من صفقات التسليح ناهيك عن مبرر التواجد العسكري الأمريكي الكبير في المنطقة الحساسة من العالم حيث الصراع مع الصين، القوة العالمية الصاعدة بقوة، الأمر الذي يعطي انطباعا بأن واشنطن ستعمل على وضع العراقيل أمام عربة التصالح أو التطبيع بين الكوريتين تحت حجج وذرائع مختلفة، حيث الاستفزازات الأمريكية لكوريا الشمالية لم تتوقف رغم تغير نبرة اللهجة السياسية في الفترة الأخيرة.... الفترة القادمة سترسم الصورة الصحيحة لهذه التوقعات.
مشاركة :