خلال زيارتي الأخيرة للعاصمة الأردنية عمان قابلت أحد الأصدقاء القدامى الذي انتقل إليها بسبب دراسة أولاده وتبوئه منصبا تنفيذيا كبيرا في شركة رائدة ومهمة في مجال المعلومات والتقنية المتقدمة، بدأت في طرح أسئلة تقليدية عليه تتعلق بالمناخ والتأقلم والعيش في منطقة جديدة ومختلفة، وقهقه ضاحكا وقال لي سأروي لك بعض طرائف من الصدمة الحضارية التي واجهت ابني بعد انخراطه في المدرسة هنا، قال مضيفا ومتابعا إن ابنه عاد ذات يوم من المدرسة وهو في حالة ذهول تام، ووجه حديثه لوالده وقال له: «أنا اليوم قابلت واحدا في فصلي اسمه (مايكل) وهو عربي ويتكلم العربية مثلي، ولكنه مسيحي فكيف ذلك الأمر؟»، فما كان من صديقي إلا أن قام بالشرح العميق والدقيق عن المسيحية وتاريخها المتجذر والأصيل في هذه البقعة من العالم ورسوخ وجودها في القبائل العربية العريقة مثل المناذرة والغساسنة، وأن المسيح عليه السلام نفسه هو من فلسطين وتحديدا من «الناصرة» وأن كل المسلمين بدأوا منذ سيد الخلق الرسول العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تباعا بكل الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم كانت الأوامر الواضحة والصريحة بالتعامل الحسن مع أهل الكتاب وعدم الإساءة إليهم ولا التضييق عليهم، والبر إليهم طالما لم يعتدوا، واضح أن هناك خللا ما في الفهم طرأ على التراكم المعرفي للمجتمعات العربية في السنين الأخيرة. خلل هائل في فهم الولاء والبراء والتعامل مع الآخر المخالف والقتال والجهاد. فالمسألة الأخيرة شهدت كما مهولا من الإبداع والبدع يعجز عن قبوله المنطق والعقل بكل أشكاله. فلسطين المحتلة والمغتصبة والقضية الأهم والأسمى في وجدان العرب والمسلمين لم يحصل لها كل هذا التعاطف والاندفاع والقتال لأناس أتوا من كل العالم «فداء» للدين و«فداء» للحق. المسلمون شيعة وسنة جعلوا من العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين ساحات قتال أقل ما يقال عنها إنها مأساوية وبائسة وحزينة. ففريق يضحك على العالم ويقول إنه ذهب ليقاتل لنصرة الحق فينحر الرؤوس، وفريق يكذب على العالم ويقول إنه ذاهب لقتال التكفيريين، بينما هو في الواقع يكفر الآخر ويدافع عن مجرمين، كلاهما سقط في أوحال التطرف والتعصب والحماقة والتشدد والكراهية والدم، وكلاهما بالتالي يستحقان بعضها البعض، والأخطر إنهما «لعبا» على أوتار القضية الفلسطينية واستغلا الحماس والاندفاع، ولكنهما حولا البوصلة باتجاه الاقتتال المذهبي والطائفي الذي أصبح اليوم هو «المعركة الأكبر» بدلا من تحرير القدس وفلسطين. وطبعا الذي يقتل «المسلم» حتما سيكون من «المنطقي» جدا أن يقتل «المخالف لدينه». هذه الخزعبلات والتطرف الأعمى واستخدام آيات وأحاديث قتال الكفار وتوظيفها لقتال المسلمين هي سرطانات لا مناص لعلاجها سوى بالقضاء عليها من الجذور وليس بالمرطبات والمخففات. أوروبا واجهت هذه الآفة التي تسببت في حروب ودمار وشتات لقرون طويلة وسنت قوانين ودساتير تجرم التناحر الديني والاقتتال باسمه واحترام الخلافات وحماية حريات الرأي، فأجابت على مشكلاتها بشكل عملي وحقيقي ونجحت. هذه العقليات المسمومة المريضة كان من الطبيعي جدا أن تنتج جماعات إرهابية وتكفيرية مثل «القاعدة» و«داعش» و«حزب الله» و«كتائب أبو العباس» وغيرهم، ولا مناص من العلاج الفعال لاجتثاث هذه الأفكار الهدامة.
مشاركة :