إن المؤشرات الاقتصادية والسياسية المُتحّركة في الأوساط الدولية اليوم تُنبئ بالكثير من تنامي التحدي بين الولايات المُتحدة والصين في هذا الجانب. وفي تقديري أن الصينيين في هذه المرحلة ليس لديهم مانع بقول الاقتسام لمنافع إدارة الميزان التجاري العالمي. لكن حقائق تفاعل الجيوبلتك الدولية قابلة للتحولات وعدم الاستقرار بشكل كبير في المستقبل المنظور، وهو ما قد يُغيّر من معايير التفاوض الصينية بين مرحلة وأخرى وخصوصًا إذا كانت تلك التحولات قد جاءت لتصب في صالحها.. لقد استغلت الصين طاقتها البشرية الهائلة وسخرتها في دفع عملية الإنتاج إلى أبعد حدود وذلك لتحقيق أقل أسعار تنافسية لكلفة المنتج، لكنه بحسب تقديري وبالنظر إلى حجم القوة العسكرية الفائقة والمُكتنزة للولايات المتحدة فإن الصين مازالت أقل قدرة على مواجهة أي تهديد من النوع الصلب والمباشر من الولايات المتحدة وذلك بُغية حملها على التراجع عن سياستها الاقتصادية الراهنة، إلا أن هناك الكثير من المؤشرات التي تجعل من الأمة الصينية تعي حجم هذا الصراع الاقتصادي الحاصل بينها وبين الولايات المتحدة، ومما يدل على ذلك أن البرلمان الصيني بالأمس القريب قد أقر بأغلبية أعضائه إعطاء الرئيس الصيني الحالي ولاية حكم مفتوحة تمتد بامتداد حياة الرئيس الحالي وذلك نظرًا إلى ما رصدوه من نجاحه في التحول بفلسفة الاقتصاد الصيني والذي أصبح مُنافسًا على مستوى ميزان التجارة العالمي وفي فترة تُعد قصيرة مقارنة بالعمر الزمني لاقتصادات الدول الرأسمالية الغربية، إن فلسفة الصين الاقتصادية المبنية على وتيرة التصاعد المُطرد والحثيث للوصول بمنتجها إلى نقطة الصفر من قيمة الكلفة الإنتاجية وهو ما لا يتحقق إلا بحجم ضخم من فائض الإنتاج مع توافر أسواق لاستهلاكه وما يخدمهم في ذلك عاملان الأول حجم وضخامة أسواقهم المحلية الاستهلاكية، والعامل الآخر هو اتفاقية التجارة العالمية والتي كما تقدم فتحت لهم الأبواب على مصارعها لغزو الأسواق العالمية وتقديم مُنتج بأقل الأسعار التنافسية ومع السعي الجاد من تراكم الخبرة لتحسين مواصفات المنتج وبحسب متطلب أسواق الدول واشتراطاتها على الواردات، ومن المؤكد اليوم أن الصينيين يسعون بكل جهد لتحقيق تقدم في مجال الصادرات في مجال التجارة العالمية البينية وغزو كافة الأسواق العالمية ومن خلال تقديم منتج يتماشى مع المعايير العالمية للجودة وبأقل الأسعار لقيمة الوحدة الإنتاجية وواقع الحال يشي بأن لديهم من الإمكانات في ذلك الكثير من المُعطيات البشرية وتنامي الهندسة الفنية، ولو رجعنا إلى مُلامسة فلسفة الجوانب السياسية والاقتصادية للإدارة الأمريكية الحالية فهي تتبنى اليوم مبدأ الولايات المتحدة أولاً وأمام كل الاتفاقيات الاقتصادية العالمية والاعتبارات الدولية وذلك في الحقيقة يبدو في الوهلة الأولى حقا مشروعا وخصوصًا عندما يتعرض الأمن القومي للبلدان لأي مخاطر، لكن الإشكالية الأخطر هنا مُتعلقة بالمضمار الدولي والذي سيدفع ذلك بأطرافه الموازية الأخرى إلى حتمية تبنّي نفس المنهج بالمقابل، بمعنى أن ذلك المنهج سيدفع بالضرورة كافة الأطراف من الدولية الكُبرى لأن ترى نفسها أولاً وكل بحسب تقديره لحجم القوة الشاملة والمُكتنزة لديه، وعلى المستوى المنظور ذلك يعني أن العالم سيُدفع إلى حس انعدام المسؤولية وانعدام الرشد الدولي اللذين يُفترض توافرهما في الدول العظمى المُتصدرة لقيادة المشهد الدولي، وهنا تحديدًا استذكر في هذا الجانب إطلالات رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي السابق والدبلوماسي ذي الفكر العميق ريتشارد هاس حيث كتب على صفحته بموقع تويتر قبل فترة وجيزة عن نهج السياسة الأمريكية القائم حيث قال (إن الإدارة الأمريكية مُصممة الآن على شن حروب على عدة جبهات في وقت واحد، منها اقتصادية موجهة ضد الصين وشركاء تجاريين آخرين، وهي أخطر لحظة في التاريخ الأمريكي الحديث، وذلك يحصل بسبب إثارتنا بأنفسنا لبعض الحروب، وليس لنشوئها جراء بعض الأحداث) وفي وقت سابق قال ريتشارد هاس أيضًا في مقالة تم نشرها في عدد يوليو من مجلة الشؤون الخارجية بعنوان (أين تسير إعادة هيكلة السياسة الخارجية الأمريكية؟)، حيث قال فيها إن واشنطن تحتاج الآن إلى استراتيجية مشتركة تفيد الولايات المتحدة وحلفائها، وشدد هاس على أن شعار أمريكا أولاً سيء، لأن كل بلد سيبدأ في وضع نفسه أولاً ومن ثم لن يهتم بالمصالح الأمريكية بل فقط بمصالحه الخاصة، كما أضاف هذا الدبلوماسي المخضرم والبارع في قراءته وتشخيصه لحركة النظام العالمي وظواهره المتولدة من عملية الصراع الكوني الحالية (ينبغي على الولايات المتحدة استعادة دور المُساهم المسؤول وعدم عزلها لنفسها عن المشاكل العالمية، بحيث يجب عليها ألا تتخلى عن برامج المساعدات الدولية أو الكفاح من أجل المناخ) وهو يرى أن محاولات التصنع الأمريكي بغض الطرف والإيحاء بعدم القُدرة على التنبؤ في السياسة الخارجية أمام بعض القضايا الدولية المُكلفة هو أسلوب جيد للتمويه وكتكتيك لكنه لا يصلح بأي حال من الأحوال لأن يكون خيارًا استراتيجيًا، كما يرى إمكانية إصلاح النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه يرفض أن يعاد صياغته بشكل كامل، ثم يُضيف (إنه على الولايات المتحدة ألا تنسى عدد الفوائد التي جلبها هذا النظام العالمي تحديدًا إليها). ومع ما يرصدهُ هذا المفكر الاستراتيجي المخضرم فإنه لا ينكر حقيقة المُشكلة الأخطر والأعمق والتي تكمن في التنامي المُطرد لحجم الاقتصاد الصيني ومدى إمكانية هيمنته على ميزان التجارة العالمي مستقبلاً وهو ما يُحتم على الولايات المتحدة التصدي لذلك وإيقافه. hassanalaswad@hotmail.com
مشاركة :