وسط الحديث الرسمي المتداول من أن لبنان بلد مفلس أو وصل إلى حافة الإفلاس، وتتالى التوضيحات عن حقيقة ما قاله الرئيس عون وما قصده من قوله، يأتي مؤتمر «سيدر» الذي ستستضيفه باريس غداً، وعنوانه الاستثمار في البنى التحتية، أشبه بمحطة مهمة شرط نجاحها الشارط المقدرة على التوجه المسؤول للجهات الدولية، بمعنى التحدث بمعطيات وأرقام دقيقة عما تم إنجازه وما يمكن للبلد أن يحققه وفق التعهدات السابقة للحكومات المتعاقبة والالتزامات المقطوعة بالتزام القرارات الدولية، وهنا الترابط دقيق بين الاقتصادي والسياسي.التوجه المسؤول أول ما يعني هو الكف عن التشاطر وتقديم الاستغلال الانتخابي لهذا الحدث الكبير كأولوية، فيما كل رجاء المواطن اللبناني العادي أن يصيبه منه بعض الفوائد، فإذا هاجس بعض أهل الحكم إدراجه في التوقيت الانتخابي، والترويج لمحور معين كالإعلان في خطاب دعائي انتخابي، أن مؤتمر «سيدر» سيوفر 900 ألف فرصة عمل (...) على هذا المنوال فإنه مع المؤتمرات الشبيهة التي سبقته سيكون لبنان مرشحاً لحل جزء كبير من أزمة البطالة في المنطقة!! طبعاً لم يشرح رئيس الحكومة كيف ستتوفر هذه الفرص، وهو قطعاً أول من اطلع على تسريب دولي يؤكد غياب الاهتمام بالاستثمار في لبنان لأن مع هذه الطبقة السياسية بات الفساد لا مثيل له، والحكم لا يكترث بالقرارات الدولية ولا بتعهداته.بالأمس القريب انعقد مؤتمر روما الذي كُرِّس لتسليح الجيش والقوى الأمنية، وبعد «سيدر» ينعقد في الخامس والعشرين من الشهر الحالي مؤتمر بروكسل المكرس لتلبية الاحتياجات الأولية للنازحين السوريين. في روما كانت الحصيلة مُقيدة بشروط ومتواضعة جداً قياساً على الرهانات، وتبعاً لكل التوقعات العاقلة سيتكرر المشهد نفسه في باريس، والأمر سيكون هو هو في بروكسل، وإن تم تخصيص مساعدات مباشرة للنازحين بمثابة المُسَكِّن ليس إلا... وطبعاً لا يمكن للمتابع أن يفوته الفارق بين ما يسعى إليه لبنان وما يمكن أن يحصل عليه من تقطير في المساعدات.التقطير الدولي أسبابه جلية، فكل زوار لبنان كما كل زيارات المسؤولين اللبنانيين إلى الخارج، شهدت تذكير الرسميين اللبنانيين بما تعهد به لبنان الرسمي وبما نصت عليه القرارات الدولية. مؤتمر روما وهو الثاني الذي انعقد بمشاركة 40 دولة، وبرعاية الأمم المتحدة والبلد المضيف، أعاد إلى الأذهان التركيز على المعايير الحقيقية لاستعادة الدولة في لبنان، عندما وضع المؤتمر ملف السلاح غير الشرعي على طاولة البحث، وحثَّ المسؤولين اللبنانيين على بحث متكامل في استراتيجية دفاعية انطلاقاً مما أعلنه الرئيس اللبناني قبل المؤتمر وما ركز عليه رئيس الحكومة أمام المؤتمرين، بما يمهد لحصر السلاح بيد الدولة، إلى ضرورة الالتزام الحقيقي بسياسة النأي بالنفس عن حرائق المنطقة، وهو الشعار الرسمي لخطاب القسم ومن ثم البيان الحكومي، وتطبيقه النأي عن التدخل في الحرب ضد الشعب السوري، ومنع تحول لبنان من بلد الرسالة الحضارية، إلى منصة صواريخ تحركها طهران في استهدافها الأشقاء، وآخر الغيث ما تم كشفه من أن الضاحية الجنوبية لبيروت هي مصدر الصواريخ الحوثية التي استهدفت الرياض وبعض مدن المملكة العربية السعودية (!!!) وحتى تاريخه نأت كل المراجع اللبنانية عن التعليق على الموضوع.ما اكتشفه الوفد الرسمي إلى مؤتمر روما، ينتظر الوفود الرسمية في كل المؤتمرات الآتية، وهو أن المصالح تتقدم، وما من جهة دولية بوارد تقديم هبات مجانية، أو أنها ستمد يدها للمساعدة في انتشال لبنان من القعر الذي هو فيه، بسبب السياسات الرسمية المتبعة والفساد غير المسبوق الذي يعيشه، من دون التزامات لبنانية نهائية لا رجعة عنها، لأن الكل يعلم ويدرك أن طرفاً مقرراً في لبنان (حزب الله)، يوسع من انخراطه في الحروب على المنطقة وأبعد من سوريا، وزعيمه يعلن أن توجيهات الولي الفقيه فوق الدستور اللبناني وواجبة التنفيذ (...) وكل الدول المانحة، ومعها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي وصف لبنان بـ«الدولة الضعيفة»، لم تعد تخفي قلقها من التكيُف الرسمي مع السلاح غير الشرعي وهو تكيّف يسلم بأنْ لا حل للسلاح بذريعة أنه قضية إقليمية!! وهذا التسليم يكتسب كل مخاطره إذا عطفناه على الحلقة الخطرة حيث يوجد في الدولة، وفي موقعٍ كبير، من يجاهر بأن هناك ضرورة لهذا السلاح لمقاومة إسرائيل (...)، علما بأنه منذ انتهت حرب يوليو (تموز) قبل 12 سنة لم يستخدم هذا السلاح إلاّ ضد اللبنانيين وأكثر ضد العرب.من الآخر، الدعم المتوقع من مؤتمر باريس، حيث يسعى لبنان الرسمي للحصول على 17 مليار دولار القسم الأكبر منها خلال السنوات الأربع الآتية، يُرجح أن يكون متواضعاً جداً ومقروناً بالتزامات حقيقية في الإصلاح النقدي والاقتصادي، كما النأي بلبنان والتزام القرارات الدولية ولا سيما 1559 و1680 و1701 وكلها تنص على عدم وجود أسلحة أو سلطة في لبنان بخلاف الدولة اللبنانية. والدعم المتواضع ينطلق من وجود هاجس لدى المجتمع الدولي بضرورة استمرار الاستقرار، لأن انفلات الوضع يهدد بتسونامي نزوح باتجاه أوروبا ومعروف أن لبنان يستضيف أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ سوري فضلاً عن بضع مئات من الألوف من اللاجئين الفلسطينيين.ما يعتبره لبنان الرسمي ورقة قوة، يتعهد بها، وهي أن الحوار بشأن استراتيجية دفاعية سينطلق بعد الانتخابات النيابية، يبدو أنه مسار طويل، طبعاً بدايته معروفة لكن نهايته في علم الغيب. ومثل هذا الحديث والتعهد يخدم «حزب الله» في تمرير الوقت، بانتظار التطورات الإقليمية التي يراها مواتية، وبانتظار نتائج الانتخابات. وهنا نفتح مزدوجين للتنبيه بأن «حزب الله» يضع أمامه النموذج الذي اتبعه «الحشد الشعبي» في العراق، أي تشريع السلاح والميليشيات إياها، وهذا هاجس طهران بإيجاد جيش موازٍ للجيش الشرعي لإحكام سيطرتها بواسطة طرف داخلي له وضعيته المزدوجة، داخل السلطة وولاء للخارج، وربما تكون نتائج البرلمانيات 2018، المدخل لتثبيت هذا الأمر الخطير، خصوصا أن هذه الانتخابات ستتم وفق قانون هجين ابتكره وهندسه «حزب الله» على قياس مصالحه، وليس قانونا يحمل للبنانيين الحد الأدنى من إمكانية التعبير الحقيقي عن مصالحهم. وهنا بالضبط تكمن مخاطر هذه الانتخابات التي تذكر بانتخابات العام 1992 التي أقرت المعاهدة الشهيرة مع النظام السوري وفتحت البلد أمام دمشق لتمارس وصاية كاملة على الدولة.قبل نحو 30 يوماً على الانتخابات العامة ما زال الرهان موجوداً، إنه في رفع نسب المقترعين إلى أكثر من 60 في المائة، لأن من شأن ذلك خربطة البازل الانتخابي وتصحيح الصورة. تحقيق هذا الهدف يمنح الناس النفس والوقت في معركة استعادة الجمهورية وكسر نهج التخلي عن السيادة ومكافحة جدية للفساد.
مشاركة :