أحد أوجه الحرب الدائرة في سوريا التي غالباً لا يعرف عنها الأميركيون شيئاً، مشهد طبيبة جراحة بالجيش الأميركي تقف تحت أشعة الشمس الحارقة في منتصف النهار في إحدى ضواحي الرقة لالتقاط أنفاسها في استراحة قصيرة من عملها شبه المستمر داخل غرفة العمليات، حيث تعالج السوريين الذين تناثرت أشلاؤهم بسبب انفجار قنابل أو عبوات ناسفة على جانبي الطريق. تحمل هذه الطبيبة رتبة لفتنانت كولونيل، وتعمل داخل قوة العمليات الخاصة الأميركية، وتبعاً للقواعد التي فرضت على رحلتي التي قمت بها لمدة أربعة أيام إلى سوريا في فبراير (شباط)، فإنه غير مسموح لي بذكر اسمها. أثناء عملها، حاولت الطبيبة تجميع الأجساد المحطمة معاً من جديد، في كل يوم. وعندما تحدثت إليها، كانت الجراحة الوحيدة المتخصصة في جراحات الرضة بالمنطقة بأسرها؛ ما يعني أن جميع الحالات السيئة قدمت إليها. وفي حديثها معي ذكرت أنها في بعض الأحيان كانت تجري عمليات في الأطراف الأربعة لبعض السوريين الذين يعانون إصابات خطيرة. ولا تزال تذكر أحد الأيام العصيبة عندما جرى نقل تسعة أطفال مصابين إلى طاولات غرفة العمليات أمامها في الوقت ذاته. وينتمي جميع مرضى الطبيبة الأميركية تقريباً إلى المدنيين السوريين الذين بترت أطرافهم بسبب عبوات ناسفة بدائية الصنع، وقنابل انفجرت فيهم أثناء محاولتهم العودة إلى ديارهم بعد تحرير الرقة أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بعد قتال مرير من منزل لآخر خاضته «القوات الديمقراطية السورية» وحلفاؤهم الأميركيين. وذكرت الطبيبة، أنه لأكثر من عشر مرات أسبوعياً تعكف على علاج أفراد على وشك الموت، لكنها أضافت أنها تنجح في إنقاذ 95 في المائة من مرضاها. أما الحقيقة الأكثر إثارة للدهشة، فهي أن هذه الطبيبة تشعر بالامتنان إزاء منحها فرصة العمل داخل سوريا لمعاونة أبنائهم على جمع شتات وطنهم. وقالت «في الولايات المتحدة، إذا لم أذهب لأداء عملي، سيتكفل به شخص آخر. إلا أن فعل ما تدربت على فعله والإسهام في أمر أكبر من نفسك يحمل أهمية كبرى. في الواقع، إنه لشرف بالنسبة لي العمل هنا». جدير بالذكر، أن الطبيبة الأميركية جزء من البعثة الأميركية العاملة داخل سوريا التي يبدو الرئيس دونالد ترمب عاقد العزم على وضع نهاية لها. وعندما أفكر في هذه الطبيبة وعشرات الجنود الأميركيين الآخرين الذين التقيتهم خلال ثلاث رحلات قمت بها إلى سوريا منذ عام 2016، لا أملك سوى التفكير في أن مهمتهم تحمل شيئاً وراءها لا يدركه ترمب. جدير بالذكر هنا، أن هذه المهمة اتسمت حتى اليوم بانخفاض كلفتها في الوقت الذي حققت نجاحاً كبيراً. وفيما يلي سوف أستعرض بعض الشخصيات التي التقيتها خلال رحلتي: ودعونا نبدأ بالقائد الميداني للقوات الأميركية داخل سوريا، الذي تعاون مع السوريين الأكراد طيلة أربع سنوات تقريباً، منذ معركة كوباني في أكتوبر 2014. وقد شعر قادة عسكريون أميركيون بأن الأكراد على استعداد للقتال والموت في مواجهة تنظيم داعش. وعليه، خرج الأميركيون والأكراد من تلك المعارك وقد ربطت بينهم مشاعر أخوة من نوع خاص لا تترعرع سوى داخل ميادين القتال. وقاد القائد السيارة التي كنا نستقلها على امتداد إحدى الطرق قرب إحدى النقاط الأمامية خارج منبج في شمال سوريا. وبدا أنه كان على دراية بكل منحنى وكل عثرة بالطريق، علاوة على قدرته على الحديث بالعربية. والواضح أنه عايش هذه الحرب بكل ذرة في وجدانه. وعندما سألته كيف يمكن حل هذه الأحجية نهاية الأمر، أجابني: «ليس هناك إجابة عسكرية لهذا السؤال». ورابطنا عند الجانب الشرقي، قرب شدادي، بينما كانت تختبئ قوات «داعش» على بعد ميلين. وتعتمد القوات الأميركية و«القوات السورية الديمقراطية» على أسلوب تحصين بسيط تعلوه نقطة مراقبة محمية بسقف من الصفيح وسجاجيد شرقية. وبالأسفل يوجد خندقان لوقف السيارات المفخخة. وتحدثت إلى سيرجنت ميجور كان يتجول بالمنطقة برفقة أحد القادة، وبدا لي أكبر سناً عن غالبية الجنود، ومزح معي قائلاً إن الوقوف إلى جواره ينطوي على خطورة كبرى؛ لأنه جاذب للرصاصات. وقد تقلد أربعة أوسمة نالها جميعاً في العراق، بجانب ست «نجمات برونزية». وعندما سألته عن إصابته، توقف برهة وكأنه يفكر، ثم قال إن إحدى الإصابات نجمت عن قذيفة هاون، وأخرى عن قنبلة يدوية، وثالثة أثناء قتال مباشر، بجانب إصابة رابعة تعرض لها أثناء وجوده داخل طائرة مروحية. وعندما سألته عن سبب قدومه إلى سوريا مرة بعد أخرى، توقف قليلاً وبدا أنه غير واثق بالإجابة، ثم قال ببساطة لأنه محظوظ بنيل شرف خدمة بلاده. وأثناء عودتي إلى الولايات المتحدة على متن طائرة شحن طراز «سي ـ 130» كان إلى جواري ضابط شاب يبدو عليه الضيق؛ وذلك لسببين. أولاً: أنه عائد إلى الوطن لرؤية والدته المريضة. ثانياً: لأنه ترك زملاءه في الميدان قبل توقف القتال. وقد آلمه هذا السبب الأخير على نحو خاص ـ وينبغي أن يكون هذا حالنا جميعاً. * خدمة «واشنطن بوست»
مشاركة :