مازالت مسيرات العودة للفلسطينيين في قطاع غزة تحافظ على زخمها وسلميتها، وهي على الأرجح، في حال استمرارها، بطريقة مدروسة، على هذا النحو الشعبي والسلمي، ولا سيما في حال شمولها الضفة، وربما مناطق 1948، وبلدان اللجوء المجاورة، سيكون لها تأثيرها الكبير على معادلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ما يؤدي إلى معادلات وتفاعلات كبيرة، ربما تتمثل تداعياتها أولا في استعادة الروح لحركة التحرر الوطني الفلسطينية بعد تحولها إلى سلطة تحت الاحتلال. ثانيا الإطاحة بفكرة “الفصل” الإسرائيلية، وفق معادلة “نحن هنا وأنتم هناك”، وتاليا التخلص من الفكرة التي استمرأها الإسرائيليون عن خلق واقع من الاحتلال المريح والمربح لهم، التي تأسست على إقامة سلطة فلسطينية، بموجب اتفاق أوسلو وملحقاته الأمنية والاقتصادية (1993). ثالثا التأثير في إدراكات الفلسطينيين لأشكال النضال الممكنة والمناسبة والفعالة، والخروج من إطار وحدانية الكفاح المسلح، وعدم مساءلة هذه التجربة ونقدها أو تقديسها، بإعادة الأمر إلى الأصل أي إلى مقاومة الشعب. رابعا، التأثير على الإسرائيليين الذين باتوا يستعيدون مظهرا سبق أن اختبروه في الانتفاضة الفلسطينية الأولى (بين 1987 و1993)، إذ ثمة فلسطينيون يتظاهرون بشكل سلمي فيما جنود جيش الاحتلال، الذي “لا يقهر”، يطلقون عليهم الرصاص بدم بارد، وهي الانتفاضة التي كانت أثارت التناقضات في المجتمع الإسرائيلي، وكسرت احتكار إسرائيل لصورة الضحية في الرأي العام العالمي، لصالح الفلسطينيين. حتى تتطور هذه التداعيات، ويمكن للفلسطينيين استثمارها سياسيا، فإنها تتطلب عدا عن شموليتها وتنظيمها، بطريقة لا تخرج عن السيطرة والسلمية، وبالمستـويات التي لا تثقـل عليهم، أو تحملهم ما لا يستطيعون تحمله، تحت الحصار أو الاحتـلال، تتطلّب إبقاءها في حيز الحراك الشعبي، أي من دون أي محاولة من قبل السلطتين في الضفة وغزة، أو الفصائل، الهيمنة عليها وإعادة تكرار تجربة السيطرة على الانتفاضة الأولى، أو تجربة إجهاض الانتفاضة الشعبية الثانية، بتحويلها إلى انتفاضة مسلحة، والاكتفاء عوض ذلك بالإسناد السياسي والمادي للحراك الشعبي. برز العديد من الزعماء والكتاب والصحافيين الإسرائيليين، الذين يؤيدون حقوق الشعب الفلسطيني، من أمثال أبراهام بورغ، ويوسي ساريد وعميره هس وجدعون ليفي ويوري افنيري، على سبيل المثال ولعل نقطـة ضعف هـذا الحراك تنبع، أولا، من الانقسام الفلسطيني، بين سلطتي الضفة وغزة، وبين حركتي فتح وحماس، ما يتطلب تحييده عن هذا الواقع المؤسف، والتعامل معه بمسؤولية وطنية لجهة التأكيد على الحقوق الوطنية الفلسطينية، وضمنها الحق في دولة عاصمتها القدس وحق العودة للاجئين، ورفع الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة. وتنبع نقطة ضعف الحراك الفلسطيني ثانيا، من حال الاضطراب والانهيار الذي تشهده بلدان المشرق العربي، التي تعتبر العمق الحيوي للشعب الفلسطيني، لأن هذا الوضع يفيد إسرائيل بإطلاق يدها في مواجهة الفلسطينيين، ويسهل لها البطش بهم، وهو مسار ينبغي تداركه أو الحذر من الوصول إليه. أما النقطة الأكثر أهمية هنا فهي تتعلق بمفاعيل ذلك الحراك الشعبي السلمي على الإسرائيليين، والتي تذكر بمظاهرة الـ400 ألف إسرائيلي في تل أبيب، بعد مجزرتي صبرا وشاتيلا، عقب الغزو الإسرائيلي للبنان (1982)، كما تذكر بالتداعيات التي نشأت معها حركات إسرائيلية متعاطفة مع حقوق الفلسطينيين، مثل حركة السلام الآن، وبيتسيلم، وهناك حد، وحركة الأمهات الأربع، وسيدات في حداد، والمؤرخون الجدد وتيار ما بعد الصهيونية الخ. وفي الغضون برز العديد من الزعماء والكتاب والصحافيين الإسرائيليين، الذين يؤيدون حقوق الشعب الفلسطيني، من أمثال أبراهام بورغ، ويوسي ساريد وعميره هس وجدعون ليفي ويوري افنيري، على سبيل المثال. ومثلا، في ما يخص الحراك الجاري وصف جدعـون ليفي الجيش الإسـرائيلي بأنه جيش الذبح الإسرائيلي، في مقال جاء فيه “عدّاد الموت ضرب بعنف. قتيل كل نصف ساعة وقتيل آخر وقتيل آخر.. حتى المساء كان هناك 15 جثة و758 مصابا، جميعهم بالنار الحية. دبابات وقناصة ضد مدنيين غير مسلحين. هذه مذبحة، لا توجد كلمة اخرى… ماذا كان سيحدث لو أن متظاهرين يهود إسرائيليين، مستوطنين، حريديين أو غيرهم، كانوا يهددون بالصعود على مبنى الكنيست. هل النار الحية المجنونة كهذه من الدبابات والقناصة كان سيتم تفهمها؟ هل قتل 15 متظاهرا يهوديا كان سيمر مرور الكرام هنا؟.. لا يوجد في إسرائيل شيء أرخص من دم الفلسطينيين. حتى لـو قتل مئة أو ألف متظاهر” (صحيفة هآرتس 1 أبريل 2018). ورأت الكاتبة عميرة هس “أن إسرائيل، عبر عمليات القتل في غزة، كشفت وجهها الشرير وتجاوزت شرها المعياري” (صحيفة هآرتس في العدد الصادر يوم 4 أبريل الجاري). أما حامي شاليف، فاعتبر أنه “للمرة الأولى منذ فترة طويلة، عاد النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى احتلال مكان مركزي في تقارير وسائل الإعلام الدولية…احتجاجات فلسطينية حاشدة وغير عنيفة، ظاهرا، تجبر الجيش الإسرائيلي على قتل وجرح المدنيين العزل. التشبيه بالمهاتما غاندي، وجنوب أفريقيا، أو حتى بنضال السود من أجل المساواة في الولايات المتحدة، مهما كانت غير صحيحة وسطحية، ستؤطر في نهاية المطاف مرحلة جديدة من النضال الفلسطيني” (هآرتس، 2 أبريل الجاري). وبدوره، فقد انتقد أوري أفنيري بشدة دولته، بقوله “أنا أخجل من الجيش الذي أقسمتُ له بالولاء يوم تأسيسه. فهذا ليس الجيش الذي خدمت فيه. وأنا أخجل من الإعلام الذي كان لي دور في تشكيله. فهذا لم يعد الإعلام ذاته. وأنا اخجل من دولتي التي تحولت إلى دولة قبيحة. أنا خائف، لا يوجد لدى حكومة إسرائيل أي رد آخر على مقاومة غير عنيفة. الحكومة ستحاول تحويل المقاومة غير العنيفة إلى مقاومة عنيفة…الجيش الذي يطلق النار على جمهور غير مسلح ليس جيشا؛ هو بصعوبة ميليشيا... من الذي انتصر حتى الآن؟ لا يوجد أدنى شك أن الفلسطينيين هم الذين انتصروا. لم يكن بالإمكان في ذلك اليوم أن تشاهد قناة تلفزة أجنبية دون رؤية الأعلام الفلسطينية وهي ترفرف أمام ناظرينا. بعد سنوات اختفت فيها تقريبا القضية الفلسطينية من وسائل الإعلام الدولية، عادت وبقوة” (هآرتس 4 أبريل).
مشاركة :