أعود إلى هذا الموضوع نظرًا إلى أهميته البالغة بالنسبة إلينا. في الحقيقة هو أهم بكثير مما قد يتصور البعض. أعني موضوع الجدل الدائر في أوساط الإدارة الأمريكية، وفي أمريكا عموما، هذه الأيام حول الانسحاب من سوريا الذي طرحه الرئيس الأمريكي ترامب. القضية، كما سبق أن أشرت، لا تتعلق بسوريا فقط، وإنما تتعلق بقضايا جوهرية في المنطقة عموما. في الأيام القليلة الماضية، قرأت عددا من التقارير والتحليلات الأمريكية حول القضية، تلقي أضواء جديدة وتكشف جوانب من المهم أن نكون على معرفة ووعي بها. هذه التقارير والتحليلات تجمع بداية على أن إعلان الرئيس ترامب مؤخرا رغبته وعزمه على سحب كل القوات الأمريكية من سوريا في أسرع وقت، كان مفاجئا للجميع، وأن أول من فوجئوا هم أركان الإدارة الأمريكية أنفسهم. السبب في ذلك أن هذا الإعلان يتناقض تماما مع مواقف ترامب نفسه المعلنة والمعروفة، ومع النقاشات التي جرت في أوساط الإدارة الأمريكية في الفترة السابقة حول القضية وما طُرح فيها من آراء. هذا الإعلان يتناقض مثلا مع ما ظل ترامب يوجهه منذ حملته الانتخابية وحتى اليوم من انتقادات إلى الرئيس السابق أوباما بسبب قيامه بسحب القوات الأمريكية من العراق وترك ساحتها لإيران، ومن انتقادات لطريقة إدارته لأزمة سوريا. والتقارير الأمريكية تؤكد أنه في النقاشات التي جرت في أوساط الإدارة، كان الاتجاه الغالب الذي يتبناه كثير من الجنرالات بصفة خاصة هو أن أمريكا يجب أن تكثف من وجودها العسكري ومن دورها في سوريا، وذلك من أجل أن تتمكن من مواجهة نفوذ إيران وروسيا بالذات الآن ومستقبلا. وقد اقترح بعض الجنرالات إرسال 10 آلاف جندي أمريكي عل الأقل إلى سوريا للقيام بهذه المهمة. وهذا الموقف الذي تبناه كثيرون في الإدارة الأمريكية وخصوصا الجنرالات يتسق مع موقف ترامب من إيران بصفة عامة، ومن وجودها العدواني الإرهابي في المنطقة، وضرورة التصدي له ووضع حد له. على ضوء كل هذا، كان إعلان ترامب مفاجئا للجميع في أمريكا، وأصاب أركان الإدارة بالحيرة والارتباك، الأمر الذي انعكس في تصريحاتهم ومواقفهم. التقارير الأمريكية التي قرأتها تذكر أنه في الأيام القليلة الماضية، جرت نقاشات واسعة في أوساط الإدارة، وخصوصا في إطار مجلس الأمن القومي الأمريكي حول القضية، وعلى ضوء إعلان ترامب كما هو واضح. التقارير والتحليلات تشير إلى أن ثمة ثلاثة مواقف لترامب اتضحت أثناء هذه المناقشات، وهي: 1 - أنه بشكل عام، بدا الرئيس الأمريكي غير مهتم أبدا، ولا يريد في الحقيقة، الانغماس أكثر في المنطقة عموما وقضاياها. بمعنى أنه لا يريد، بعيدا عن المواقف النظرية المعلنة، أن يصل الأمر في أي وقت إلى الانغماس أو التورط كما يقول في سياسات وإجراءات عملية محددة في المنطقة، كالدخول مثلا في مواجهة عملية مباشرة مع إيران أو مع روسيا. وهذا هو الذي يفسر ما يردده باستمرار من أن أمريكا لم تجن شيئا من تورطها في المنطقة في السنوات الطويلة الماضية. 2 – إن ترامب أظهر أنه ليس مستعدا للقتال في سوريا والتضحية بجنود أمريكيين من أجل العمل على تغيير النتيجة التي انتهت إليها الحرب في سوريا فعلا لصالح إيران وروسيا، ولا يعنيه كثيرا أو قليلا قضايا مثل مستقبل سوريا أو مستقبل إعادة الإعمار فيها. 3 - إن كل ما يهم ترامب ويشغل باله، ولا يكف أبدا عن الحديث عنه هو الحصول على أكبر قدر من الأموال من «دول الخليج الغنية». هذه هي الجوانب الثلاثة في تفكير ترامب التي أكدتها تقارير وتحليلات أمريكية. ولا أحسب أن الأمر بحاجة إلى تعليق. وعلى أي حال، أحد الذين على علم بما دار في أروقة مجلس الأمن القومي الأمريكي، لخص ما انتهى إليه الأمر بشكل بليغ ومعبر. قال: إنهم الآن لا ينطقون جملة «مواجهة إيران في سوريا». للحديث بقية بإذن الله.
مشاركة :