ضمن الخدائع المؤسسة للإسلام السياسي ثمة خديعة ذائعة الصيت تزعم وجود مؤامرة كونية هدفها الأول والأخير هو القضاء على الإسلام. بحيث تلجأ معظم فصائل الإسلام السياسي إلى توظيف تلك الخديعة كآلية من آليات التأثير على الجمهور. وإن كان التأثير السياسي حقا من حقوق كل الفاعلين السياسيين، إلا أن الإفراط في التأثير على الانفعالات، والمراهنة على إثارة الحمية والعصبية مقابل تغييب العقول، كل ذلك يعد خرقا سافرا لقواعد السياسة. بل عادة ما ينتهي الأمر إلى تدمير الشرط السياسي، ومن ثمة تشتعل الفتن. لقد شحن الإسلام السياسي النفوس بشعارات تدّعي أن إسلامنا في خطر محدق، وأن أعداءنا يتربصون بنا من كل الجهات، وأن ديننا يوشك على الضياع من أيدينا، وأن الله أكبر، مما أفضى في آخر المطاف إلى امتلاء النفوس بمشاعر الخوف والغضب والحقد والتوجس، ومن ثمة توفرت الجاهزية النفسية لدى غالبية الشعوب لكي تستسلم لغواية الإسلام السياسي، وترى فيه المنقذ من الضلال، وحامي بيضة الإسلام وشوكة المسلمين! تشكلت ملامح تلك الخديعة في العديد من النصوص الأساسية للإسلام السياسي، من ضمنها على سبيل المثال كتاب “المؤامرة على الإسلام”، لأنور الجندي، الصادر عام 1977. تعدّ نظرية المؤامرة آلية أساسية من آليات التواصل السياسي بالنسبة لتيارات الإسلام السياسي. بل لا يتعلق الأمر بالتواصل، وإنما هو الاتصال بمعناه العمودي السلطوي، حيث هناك صوت الخطيب (الداعية، الشيخ، المرشد،)، وهناك في المقابل آذان المستمعين (الجمهور، المريدون، المصلون). والأدهى أن الإسلام السياسي يتعمد تسمية الأعداء بمسميات قد تعني كل شيء، وقد لا تعني أي شيء، بحيث يكرس ثقافة الغموض في آخر المطاف. وبلا شك، يحيل الغموض إلى انعدام المسؤولية، وربما انعدام المروءة في بعض الأحيان. كان عبدالإله بن كيران ينعت خصومه بـ”الأشباح والعفاريت”، وكان محمد مرسي ينعتهم بـ”الفلول”، وينعتهم رجب طيب أردوغان بـ”الدولة الموازية”. فضلا عن كل ذلك يصبح غياب الأدلة على المؤامرة دليلا على حبكة المؤامرة، فيما يشبه الحلقة المفرغة. تبعا لهوس المؤامرة على الإسلام، يتم اختزال كل مشاكلنا في عامل واحد ووحيد: تآمر أعداء الإسلام. حتى مشاكل “الضعف الجنسي” تُنسبُ أحيانا إلى المخططات السرية لأعداء الإسلام والذين يخططون لضرب القدرات التناسلية لدى المسلمين! في كل هذا يكون الإسلام هو الدين الوحيد على وجه البسيطة الذي يستهدفه “الأشرار”، دون سائر أديان الشرق التي وراء بعضِها، ويا للمصادفة، اقتصاديات صاعدة بقوة وبالفعل (البوذية، الهندوسية). وكذلك نتذكر كيف خوّن الإخوان والسلفيون منافسيهم من القوى الوطنية واعتبروهم أداة للغرب، قبل أن يقوموا بإقصائهم من لجنة صياغة الدستور. لكن لم يتأخر الوقت لكي يدفعوا ثمن مناوراتهم ضمن مآل مأساوي في الحساب الأخير. عموما، إذا كنا ننتقد البنى الاستبدادية التقليدية في أوطاننا، فمن الواجب أن نعيد التأكيد بنحو لا لبس فيه بأن الإسلام السياسي يعيد تشكيل نفس البنى الاستبدادية بنحو أشد خطورة كما تشهد على ذلك التجربة الإيرانية والتجربة السودانية، بل وكما تشهد على ذلك الفتنة المشتعلة في الكثير من المجتمعات ذات الغالبية المسلمة. الإسلام السياسي يصر على أن يصدع رؤوسنا بنفس الأسطوانة المشروخة بأن الإسلام في خطر، وبأن المسلمين مستضعفين في الأرض. سواء كان العدو خارجيا ممثلا في “الاستكبار العالمي”، أو داخليا ممثلا في “حكم الطاغوت”، فإنّ الإفراط في استعمال خديعة المؤامرة على الإسلام ليكشف لنا عن مستويين من الضعف داخل تنظيمات الإسلام السياسي: أولهما: أن تلك التنظيمات لا يحركها مشروع حضاري واضح المعالم لغاية التنمية وتوفير الخدمات الاجتماعية، بقدر ما يحركها هاجس التمكين والسيطرة على السلطة. فما إن يصدق الشعب بأن هناك مؤامرة على الإسلام حتى يمنح صوته لمن ينصبون أنفسهم حماة لبيضة الإسلام. ثانيهما: يُعتبر التآمر على الإسلام أفضل مبرر لردع أي معارضة لحكومة يتزعمها منتحلو صفة الناطقين باسم الله، ممن يطلقون على أنفسهم “جند الله” و”حزب الله” و”أنصار الله”، و”أنصار الشريعة”. وكما لا يخفى، فلولا اصطدامهم بقوة المجتمع المدني في تونس، ولولا سوء منقلبهم في مصر، ولولا عدم تحكمهم في كل شيء بالمغرب، لكانت المنطقة بأسرها قد وقعت في دوامة لا يعلم مداها إلا الله. حرص الإسلام السياسي منذ ظهوره في النصف الأول من القرن العشرين على صياغة نظرية المؤامرة وفق النمط النازي تحديدا. ذلك أن هتلر، هو أول حاكم يتسلط على رقاب شعبه بدعوى وجود مؤامرة يهودية على وطنه، وعلى العالم بأسره. لقد أعاد الإسلام السياسي صياغة نفس الرؤية انطلاقا من المتن الفقهي هذه المرة. فقد اعتبر المؤامرة على الإسلام ناجمة عن معاندة أهل الباطل لأهل الحق. وذلك هو التصور الذي كرسه سيد قطب. لكن سرعان ما أصبحت المؤامرة على الإسلام مؤامرة على الإسلام السياسي تحديدا، ولا سيما بعد أن انتحل الإسلام السياسي صفة المدافع الرسمي عن الإسلام. أمام المؤامرة الكونية ضد الإسلام يلعب الإسلام السياسي دور المظلوميّة، حتى لو قُدمت إليه كل التنازلات الممكنة على طبق من ذهب، حتى ولو كان شريكاً في الحكم كما هو الحال في المغرب، بل حتى ولو كان ينفرد بالحكم كما هو الحال في تركيا. يمارس دور الضحية في كل أحواله، سواء طاردته أميركا في جبال قندهار كما تفعل في بعض الأحوال، أو أغدقت عليه بالأموال كما تفعل في أحوال أخرى، سواء حشرته الأنظمة في السجون كما الحال في سوريا الأسد أو مكنته من الوصول إلى دواليب البلاط كما الحال في قطر. وكمثال من أرض المغرب يمكننا ملاحظة أن مجمل البنية الخطابية لرئيس الحكومة الحالي سعدالدين العثماني، وكذلك لرئيس الحكومة السابق عبدالإله بن كيران، يقوم على أساس منطق المظلومية على طريقة “لا نستطيع فعل ما يجب فعله لأننا مغلوبون على أمرنا”. يتعلق الأمر بحيلة سخيفة تقوم على ما يلي: إذا لم يكن لديك تصور واضح للعمل الذي يجب عليك القيام به فقل للناس، إن بعض الناس لا يتركونني أعمل، أو لا يوفرون لي البيئة المناسبة لكي أعمل صالحا، أو يرفضون التعاون معي لكي أعمل مثقال ذرة، وما إلى ذلك من بكائيات الفاشلين. إنها الحيلة نفسها التي رأيناها في تونس إبان حكم الترويكا، وفي المغرب خلال حكم حزب العدالة والتنمية. في عالم اليوم الذي يصفه أتباع الأخوين قطب بـ”جاهلية القرن العشرين”، هناك أكثر من ثلاثة ملايين مسجد في مختلف أنحاء العالم، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. حتى في فرنسا العلمانية فإن عدد المساجد يتزايد وعدد الكنائس يتراجع في المقابل. وتبقى الدعوة الدينية الإسلامية حرة بمختلف توجهاتها العقدية. رغم ذلك، يصر الإسلام السياسي على أن يصدع رؤوسنا بنفس الأسطوانة المشروخة بأن الإسلام في خطر، وبأن المسلمين مستضعفين في الأرض. سعيد ناشيد
مشاركة :