منذ منتصف ستينات القرن العشرين، تصدرت حركة السلطة السوداء (بلاك باور) الأخبار السياسية الأميركية. وتولت الحركة إبراز مطاليب السود في صيغة أشد مرارة وعنفاً من صيغة الحقوق المدنية التي اضطلع بها مارتن لوثر كينغ، الحازم والمتصالح معاً. وكانت أقرت، في 1964 و1965، قوانين المساواة المدنية بين السود والبيض. فشهد الأميركيون انفجار أشكال جديدة من الاحتجاج فاقت راديكاليتها الاحتجاجات السابقة والمديدة التي أفضت إلى إقرار القوانين العتيدة. ولكن السلطة السوداء لم تولد من فراغ. فجذورها عميقة في تاريخ السود الأميركيين السياسي وفي المدن الكبيرة، الشمالية والغربية، منذ مطالع القرن العشرين، وهجرة مئات آلاف السود من أرياف الجنوب الى مدن الشمال الصناعية. فمعظم السكان السود، حوالى 1900، كانوا مجتمعين في الجنوب الريفي، حيث غلب الرق من غير منازع الى 1865، وساد نظام تفريق قانوني إلى عقد 1880. وكانت الحرب العالمية الأولى منعطفاً حاسماً. وأدى تقليص الهجرة من أوروبا، بينما الصناعة الأميركية في ذروة فورة إنتاجية سببها الطلب الحربي الهائل، إلى احتداد الحاجة الى اليد العاملة. فاضطرت الصناعات المتفرقة الى توظيف يد عاملة سوداء وجنوبية. وتعاظم النزوح الى المدن على نحو قلب رأساً على عقب عدد السكان وفئاتهم أو جماعاتهم: فشيكاغو كانت تعد، في 1910، 44 ألفاً، وصارت تعد 110 آلاف بعد أقل من 10 أعوام، ثم 243 ألفاً في 1930. وكان سكان نيويورك السود يعدون 60 ألفاً في 1900، فبلغوا 328 ألفاً في 1930. ونشأت في المدينتين، شأن ديترويت وفيلادلفيا وكليفلاند وبافالو وروكسيتر، وبوسطن، ومنذ 1940 في لوس انجيليس وأوكلاند بكاليفورنيا، أحياء واسعة يقطنها السود على حدة من الأحياء الأخرى في هذه المدن. وحمل طيف «اجتياح أسود» السكان البيض على إبقاء الأفريقيين الأميركيين في معازل بعيدة ونائية. ورفض الوكلاء العقاريون وأصحاب المباني والشقق بيع السود أو تأجيرهم مساكن في أحياء البيض. ولم يحظر قانون التمليك العقاري البنود الاستثنائية هذه إلا في 1948. وشاعت لفظة «غيتو»، وكان لويس ويرث من مدرسة اجتماعيات شيكاغو بادر إلى استعمالها للدلالة على أحياء السود الأميركيين، قبل أن يطعن في استعمالها، في عقد 1980، جراء إغراقها في إبراز بؤس الأحياء التي تدل عليها. فالغيتو (أو حارة السود) لم يكن وليد التفريق السكني وحده، ولا يختصر هذا التفريق وظائفه ومعانيه الأخرى. فهو كان مكاناً يشعر فيه القادمون من الجنوب بأنهم في مأمن من العنف الذي خلفوه في بلادهم الأولى، وسبقهم إليه أقارب وأهل بلد يعرفونهم، وفي مستطاعهم التخفيف عنهم وطأة الهجرة الاجتماعية والثقافية، شأن الأحياء «القومية» (الإثنية) في المدينة الأميركية. وحضنت أحياء هارلم، وناحية شيكاغو الجنوبية، وناحية فيلادلفيا الغربية، وأحياء السود الأخرى، الموسيقيين القادمين من مسيسيبي ونيوأورلينز وجورجيا، الذين جددوا الجاز والبلوز. ويروى عن عازف الغيتار إدي كوندون قوله أن بوقاً مرفوعاً في ليل حي سترول بشيكاغو، كان يسعه العزف وحده ومن غير أن ينفخ فيه أحد، في أعوام 1920. وأياً كان شأن هذه الأحياء، فهي جمعت سكاناً فقراء أقاموا في مساكن متداعية، ولم يحظوا إلا بالأعمال المرهقة، وأقلها أجراً، وأشدها تأثراً بتقلبات سوق العمل الداعية الى البطالة. وحراك العمال السود كان أفقياً، وقلما رفع قلة منهم إلى درجات أعلى على السلم الاجتماعي. واحتفاظ العامل الأسود بعمله، واتقاء الصرف من العمل، غاية مناه. وحارات السود كانت على الدوام «مرابع» سياسية. وعلى خلاف حال سود الجنوب، وسع سود حارات (مدن) الشمال الاقتراع. وفي شيكاغو، أتاح عددهم المتعاظم، في 1929، فوز الجمهوري أوسكار ديبرييست، أول نائب أسود في كونغرس واشنطن- واقترح ديبرييست، من غير طائل، مشروع قانون يحظر السحل ويدينه. ومن ديبرييست هذا إلى باراك أوباما، وبينهما هارولد واشنطن أول عمدة أسود في 1983-1987، اضطلعت ناحية شيكاغو الجنوبية بدور عاصمة السود الأميركيين السياسية. وأدت الرابطة السوداء العامة (يونيفرسل نيغرو إيمبروفمنت أسوسييشن) في أواخر عقد 1910 وأوائل عقد 1920 دوراً بارزاً. وهي جمعية قومية أسسها ماركوس غيرفي، الجاماييكي الأصل، في 1914، وجعلت دأبها جمع «الشتات الأفريقي»، والدعوة الى العودة إلى أرض الأجداد. وفي ذروة نفوذها وانتشارها، انتسب إليها مئات آلاف الأنصار، معظمهم من المدينة الكبيرة وعوالمها الشعبية، وأولها هارلم، مركز الجمعية، وتولت صحيفة «نيغرو وورلد» نشر خطب غيرفي الخلاصية. واضطلعت شركة مواصلات بحرية، «بلاك ستار لاين» (خط النجمة السوداء)، النجمة التي زينت لاحقاً علم غانا، بنقل البشر والسلع إلى أفريقيا ومنها. ورمز علم مثلث الألوان، الأحمر والأسود والأخضر، إلى الوحدة الأفريقية. وبعد 1925، وطرد غيرفي وتهمته بالتزوير عن يد مكتب التحقيقات الفيديرالي، مزقت الخلافات الداخلية الرابطة وأضعفتها. وخلفت الغيرفية أثراً عميقاً في مجتمع السود الأميركيين: فما نعاه المجتمع الأبيض على السود، أي علامتهم الفارقة وسوادهم، رفعه غيرفي إلى شارة يفتخر بها السود. وطبع خطابه القومي بطابعه حركات أعوام 1960، وصبغت هذه الحركات الخطاب القومي بصبغة ماركسية. ووالدا مالكولم إكس، شأن أهل غيره من المحازبين والناشطين، كانوا من أعضاء الرابطة. ورعت حارات السود حركات تعبئة تلقائية قبل أعوام 1960: فتصدت للتمييز في سوق العمل ومرافق التجارة، ولعنصرية بعض أوساط الشرطة. ودعت الى مقاطعة المحال التجارية التي تمتنع من استخدام السود. ونظمت تظاهرات تنديد على أبوابها. وفي أيلول (سبتمبر) 1927، انعقدت جمعية من 400 شخص في كنيسة بالناحية الجنوبية (بشيكاغو)، وصاغت شعاراً تناقلته أجيال السود: لا تشتروا من حيث يمنع عليكم العمل». ونحا بعض الاحتجاج منحى عنيفاً. ومعظم الاضطرابات العرقية نجم عن مشادات بين الشرطة وبين شبان وفتيان سود، على مثال اضطرابات شيكاغو في تموز (يوليو) 1919 التي انفجرت بعد غرق الفتى يوجين ويليامس في بحيرة ميتشيغن جراء حجر ألقاه عليه رجل أبيض أراد ثنيه عن السباحة في قطاع سباحة البيض، وحين رفض شرطي توقيف المعتدي هجمت جماعة من السود الغاضبين على الشرطي، فاعتقل الشرطي أحد المهاجمين، وبلغ الأمر سكان الحارة فاندلعت الاشتباكات في أنحاء المدينة. وقتل في الاضطرابات هذه 38 شخصاً، 23 منهم من السود، وبلغ عدد الجرحى 537، ثلثاهم من السود. وحدَّ إنزال الحرس الوطني، بدلاً من الشرطة، من عدد الضحايا. واندلعت اضطرابات أخرى، في آذار (مارس) 1935 بهارلم، وحزيران (يونيو) 1943 بديترويت (43 قتيلاً و600 جريح معظمهم في الحالين من السود). وأدى تقلص الأعمال الصناعية، في ستينات القرن الماضي، إلى غلق أبواب مصانع وانتقال بعضها إلى ولايات أخرى، وإلى تعاظم البطالة وضعف العمالة السوداء. وفي الأثناء، استفادت الطبقات الوسطى والعليا الأفريقية الأميركية من نازع التفريق العرقي السكني إلى الامحاء، فانتقلت إلى أحياء سكن تتوافر فيها شروط الراحة والرخاء والأمن. فخسرت هيئات راجحة التأثير في أحياء السود، شأن المدارس والكنائس والأعمال الخيرية، موارد حيوية. وهرب السكان البيض من المدن إلى الضواحي. وألفى المجتمع الأسود الشعبي نفسه معزولاً ومتصدعاً. وظهرت نتائج هذه الحال سريعاً: فزاد عدد الجنح والتعديات، وبرزت منظمات الجريمة التي تعتاش على المخدرات وتجارتها. وردت البلديات على هذه الظواهر بمراقبة وقمع بوليسيين ثقيلين. ورفع الفتيان والشبان السود صوتهم وقبضاتهم في هذا الإطار الاجتماعي والاقتصادي. واضطرابات «أشهر الصيف الحارة والطويلة» طوال عقد الستينات في القرن العشرين (هارلم في 1964/ ووتس في جوار لوس أنجيليس في 1965، وعشرات الحوادث في 1967 و1968) أوقعت أكثر من 200 قتيل. وهي حصلت في سياق تاريخ مديد من المجازر المدينية والمجابهات العنيفة بين جمهور السكان السود وبين شطر فتي وشعبي من السكان البيض قد يحظى بمؤازرة الشرطة في بعض الأحيان. إلا أن لاضطرابات الستينات خصوصية: تواترها وتواقتها في نحو مئة مدينة، إلى الظرف السياسي الذي لابس انفجارها وغلبت عليه حركة السلطة السوداء. ففي أثناء حركة الحقوق المدنية، تابع سود شمال الولايات المتحدة حركة إخوانهم وأخواتهم في الجنوب متابعة حارة، وأيدوهم على مطالبتهم بإلغاء التفريق وبالحق في الاقتراع المستقل. ومسألة التفريق والتمييز كان سود الشمال يشكون منها في سكنهم وفي مرافق التسلية (المسابح...). وأدى إقرار قوانين 1964 و1965، وهي ألغت التفريق وسنت الحق العام في الاقتراع، إلى تغيير الحياة السياسية والاجتماعية في الجنوب. فبرز السود، لأول مرة منذ حقبة الإعمار («ريكونستراكشن») في 1865-1877، غداة الحرب الأهلية، قوة سياسية يحسب لها حساب. وشكوى شبان الشمال السود من التمييز في العمل والسكن والتسلية والأبوية الزبائنية التي تتوسل بها السلطات البلدية، مزمنة. فبعض مرافق العمل (في قوى الأمن والإطفاء) كانت محظورة عليهم عملياً، وحيل بين المنشآت الحرفية التي يملكها السود وبين المشاركة في المناقصات العامة. وعنف الشرطة لم ينفك هاجساً يومياً. ونبه لوثر مارتن كينغ، في خطابه الأشهر «حلمت حلماً» (في 28/8/1963 بواشنطن) إلى خطورة «الفظاعات البوليسية التي تعصى القول. ومعظم اضطرابات الستينات يعود انفجارها إلى ارتكاب الشرطة مثل هذه «الفظاعات» في حق شبان سود. وساء سود الشمال انتباه الرأي العام إلى أحوال إخوانهم في الجنوب، وانصراف الانتباه عنهم بينما هم يعانون الأمرين. وانتقل كينغ الى السكن في مبنى متصدع بناحية شيكاغو الجنوبية في أوائل 1966، للدلالة على إيلائه الحال في الشمال مكانة راجحة. فقابله رئيس بلدية المدينة، ريتشارد ديْلي، بالعداء. وأبدى له شبان الناحية الجنوبية والناحية الغربية السوداوين بشيكاغو الجفاء، فهو في نظرهم واحد من وجهاء الجنوب «المدجنين». فعاد إلى أطلنطا في نهاية العام نفسه. فبعض شباب شيكاغو السود اختاروا طريقاً غير طريق مقاومة كينغ السلبية. وأنشأت جماعات منهم عصابات تولت أعمالاً إجرامية، مثل السطو والابتزاز والإتجار بالمخدرات. ولم تلبث أن تشاغلت بمشاغل سياسية في الستينات، على خطى السلطة السوداء، وتعهدت برامج اجتماعية وثقافية استبقت دعوة الفهود السود. واستمال هذه الجماعات قادة من صنف مالكولم إكس (اغتيل في شباط/ فبراير 1965)، وروبرت وليامس، داعية الحقوق المدنية السياسية ونصير التوسل بالعنف توسلاً تكتيكياً. وتقدم حزب الفهد الأسود، وهو أسس في 1966، على الحركات الأخرى واستقطب الرغبات والميول والأماني السائدة في صفوف الشباب، ولم يهبط على هؤلاء من فوق ولا من خارج، على خلاف رأي سجالي ذائع. وتفرع حزب الفهد الأسود من حركة السلطة السوداء العريضة، ودعت الحركة السودَ إلى تولي تدبير شؤونهم بأنفسهم. وجمهورها لم يجمع على رأي واحد في مسائل كثيرة، وانقسم الى تيارات ومنظمات وطنية مختلفة ومتخاصمة: لجنة التنسيق الطالبية، حزب الفهد الأسود، يو إس أورغانيزايشن، وجماعات محلية كثيرة على مثال عصابات شيكاغو. و «السلطة السوداء» عبارة كان الكاتب ريتشارد رايت أول من صاغها، واستعادها ستوكلي كارمايكل، رئيس لجنة التنسيق الطالبية في خطبة بغرينوود (مسيسيبي) في حزيران (يونيو) 1966. ودعا كارمايكل السود الى الوحدة، وتمثل تاريخهم وثقافاتهم الخاصة، وإلى المبادرة إلى مجابهة البيض والاستيلاء على السلطة. واختلف أنصار السلطة السوداء، على مدى الاستقلال الذاتي المنشود حيال مجتمع البيض وسلطتهم. فبعضهم دعا إلى الانفصال التام. وبعض آخر رضي بتقاسم السلطة. وبين الرأيين مزيج من المواقف العالم ثالثية والاشتراكية والوحدوية الأفريقية والمناصرة لفيتنام. وفي الأشهر الأخيرة، قبل اغتياله، ماشى مارتن لوثر كينغ الجناح المعتدل من السلطة السوداء، من غير أن يتخلى عن نبذ العنف. وانحاز أنصار حزب الفهد الأسود الى التنظيم العسكري وحمل السلاح. وأثار اغتيال كينغ، في 4/4/1968، مرارة حارات السود، وحمل الراديكاليين على الخروج من الانتظار والمهادنة. وانتشرت الاضطرابات في حارات المدن التي يسكنها السود، في أنحاء الولايات المتحدة كلها. ولكن «الثورة» أخلفت الموعد ولم تتعد الانتفاضات الموضعية. وخنق القمع الصارم بؤر التمرد في مهدها. واغتالت إحدى شعب مكتب التحقيقات الفيديرالي بعض وجوه الحركة: بوبي هورتون، وفرِد هامبتون، و...هرب آخرون مثل كارمايكل وكليفير... والأثر العميق الذي خلفته الحركة خلفته في الثقافة، وفي اعتداد السود بأنفسهم وبموسيقاهم وأزيائهم وآدابهم وفنونهم. * أستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس، عن «ليستوار» الفرنسية، 3/2018، إعداد منال نحاس.
مشاركة :