رواية خادعة: حكاية لا تقول شيئا ومع ذلك فهي تقول كل شيء

  • 4/15/2018
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

في روايته “صباح ومساء” لا يفاجئ الكاتب النرويجي يون فوسه قارءه بشيء، فلا يذكر كلمة أو مصطلحا غامضا، ولا يستعرض بفائض معرفة بعالم الصيادين، ولا يورد تفاصيل يجهلها أي قارئ قد يقول حين يفرغ من الرواية إنها لا تقول شيئا، ولكن هذا القارئ الذي لن تغادره الرواية سيغمض عينيه، ويستعيد الأحداث والمشاهد منذ ما قبل ولادة يوهانس حتى وفاته، ويتأكد له أن هذا العمل الماكر يقول كل شيء، ويغوص في أعماق النفس البشرية، بتلقائيتها وتعقيدها، ويتقصى فلسفة الوجود بين لحظتيْ “صباح ومساء”، بين صدمة استقبال دنيا مجهولة ثم ذهاب إلى لا مكان أكثر غموضا، إنها ثنائية الميلاد والموت، شروق الحياة وغروبها. لا يدّعي يون فوسه حكمة ما يقولها على لسان أي من شخوص الرواية، ولا يخبئ شيئا لكي يفاجئ به القارئ ويضيء له مساحة معتمة، ولكن الدهشة تلازم القارئ، وهو يلهث في متابعة أحداث ليست أحداثا، وأبطال ليسوا أبطالا، فهي أحداث لا تختلف عن تفاصيل الحياة، وهم شخوص يشبهون كل من نراهم ونصادقهم أو نقابلهم مصادفة ويعبرون حياتنا ويمضون. لا جديد إذن إلا في السرد الخادع والآسر في بساطته وسحره، وإثارته الناعمة لأسئلة الحياة والموت والفقد والحب والصداقة واللهو والبراءة من دون طرح أي أسئلة، وإنما عبر دراما تتسم بالدفء الإنساني، ولا تتوسل التعقيد وإرباك القارئ الذي يخوض تجربة قراءة لا يعوقه شيء إلى أن يفاجأ بالموت الفعلي لبطل الرواية يوهانس، والقس ينثر التراب على نعشه، أما ابنته الصغرى سيجنه فتستعيد غرابة أطوار أبيها وعناده وطيبة قلبه. لا أسى يصاحب موت يوهانس الذي تبدأ الرواية بلحظات ما قبل ميلاده، والقابلة العجوز آنا توجّه أباه إلى ما يجب أن يعمله لكي يساعدها في عملية الولادة. الأب أولاي لا يجيد التصرّف وهو يستقبل ميلاد ابنه يوهانس، كما تربكه الحياة فلا يطمئن إلى يقين، ويحمد الله أن ذهب اليوم بابنته ماجدا إلى أخيه، وهو في طريقه لإحضار القابلة. أولاي يحمد الله، وهو “على يقين بأن الشيطان يحكم العالم بقدر ما يحكمه الله، ففي معظم الأحيان يحكم العالم إله أدنى أو حتى الشر نفسه، ولكن ليس على الدوام، لأن الله الرؤوف يظل هنا أيضا”. هكذا يتذبذب الرجل بين إيمان بوجود إرادة للشيطان وحلول روح إلهية في كل شيء، وأحيانا يؤمن بأن صراعا يجري بين هذه القوى الخفية، يفكر في ذلك وهو يتأمل ابنه يوهانس، الذي منحه اسم جده، وفي نهاية الرواية ستكون لحفيدته سيجنه ابنة يوهانس بنت اسمها ماجدا أيضا، تحمل اسم شقيقة يوهانس. أسماء يتوارثها خلف عن سلف، في قرية صيادين نرويجية، أهلها يرثون أيضا حياة رتيبة، ومن هذه الرتابة استطاع روائي بارع أن يصوغ عمله في لغة فاتنة، تبدو عفوية، وترجمها بالروح نفسها من اللغة النرويجية إلى العربية كل من شيرين عبدالوهاب وأمل رواش، وصدرت الترجمة عن دار “الكرمة” في القاهرة. تفتح الأم عينيها وتنظر إلى الوليد، فيقول الأب أولاي إن ابنه سيكون صيادا “مثل أبيه تماما”، وتعلق القابلة العجوز “هذا شيء طيب”، فيقول الأب “نعم نعم”. تطمئنه القابلة أن ابنه سليم البدن، فيقول “وسيكون صيادا، نعم”، وترد القابلة “هكذا سيكون”. ويبدأ الفصل التالي وقد صار يوهانس صيادا منذورا لحياة قاسية تندر فيها رفاهية الاختيار، لم يكن على وفاق مع أبيه أولاي، وهو الآن راض، ولكنه وحيد ومحبط، تثقل سنه المتقدمة ذكرياته مع زوجته إرنا، وقد رحلت فجأة، وتركت له سبعة أطفال، انشغلوا بأبنائهم، وإن كانت سيجنه صغرى بناته تمر عليه يوميا لتطمئن على أحواله. ويمضي يوهانس أيامه الأخيرة في البحث عن أحد يشغل معه ساعات النهار، ولا يكون إلا صديقه بيتر فيخوضان معا جولات صيد، وفي إحداها يقول بيتر إن “البحر لم يعد يريد يوهانس الآن”. يتأمل يوهانس كلام صديقه، ويقدر أن البحر الضنين ليس وحده الذي لا يريده، فحياته خلت من الجدوى وافتقدت المعنى، ولم يعد يشعر بطعم شطيرة جبن الماعز التي كان يحبها، وهي الآن “لا طعم لها على الإطلاق، لا هي بالحلوة ولا هي بالمرة”. يجلس الصديقان على حافة الماء، ويشعلان السجائر، وكان بيتر يريد أن يقص شعره، ويراه يوهانس بالفعل قد صار رماديا وطويلا يهبط إلى منكبيه، ويذكّره بأنهما وفرا نقودا كثيرة منذ بدأ كلاهما يقص لصاحبه شعره، قبل أربعين سنة كما يقدر بيتر، أما يوهانس فيرى أنها خمسون سنة. ويلمح يوهانس بريقا في عيني بيتر، ويتأمله من جديد وقد نحل جسده، ولم يكن شعره أشيب وطويلا هكذا من قبل، ويخبره بأنه لم يقص له شعره من وقت طويل، وأنه سيمر عليه غدا ليقصه. يفكر يوهانس ويجفل، ويتساءل عما إذا كان بيتر “الماثل أمامه حيا يرزق، أوَليس بيتر قد مات؟ ألم يمت بيتر منذ أمد بعيد؟ نعم لقد مات، ولكن أليس بيتر هو من يقف هناك يجر قاربه؟ نعم يستطيع يوهانس أن يرى ذلك بأم عينيه، بيتر بالتأكيد حي، لا شك في ذلك” (ص 70). ويرى أن يخرج من هذه الحيرة بسؤال بيتر عما إذا كان ميتا أم حيا؟ ثم يتردد، وتحدثه نفسه بأن هذا سؤال لا يليق. في هذه المسافة البينية الغائمة تمضي بقية أحداث الرواية التي تبلغ 147 صفحة، فلا شيء يؤكد حياة بيتر أو موته، وينشغل يوهانس عن هذا السؤال بصيد المزيد من الأسماك، ومشاغبة صاحبه، ويقضيان وقتا طيبا مع آنا بيترسن الخادمة لدى عائلة أسلاكسن، وتتأبط ذراع يوهانس، وتشكره على أنه أرسل إليها خطابا رقيقا، ويلاحظ بروز بطنها قليلا، ثم تذهب تاركة الصديقين في حيرة وتساؤل عن ذلك الوغد الذي جعل “الفاتنة حاملا”. ويقطع الأسئلة قدوم فتاتين تقضيان معهما وقتا على الشاطئ، ثم يقرر يوهانس العودة إلى البيت، عودة تخلو من البهجة؛ لأن زوجته إرنا ماتت قبله، ولكنه لا يوقن بذلك، وسيتأكد من حكاية موتها حين يدخل البيت. ثم يسمع وقع خطى إرنا، ويتبادلان الحديث عن الريح والبحر، وتقول له “فلتمسك بيدي”، ويشعر ببرودة يدها الخالية من أي دفء، ويمشيان متشابكي اليدين، وتعده بصنع القهوة حين يصلان إلى البيت، ويفرح بفكرة احتساء قهوة طازجة مع سيجارة، “ويلتفت يوهانس نحو إرنا فلا يستطيع أن يراها في أي مكان”، ويتجدّد حزنه مرة أخرى؛ “إنه لشيء مريع أن يكون عليه البقاء وحيدا مرة أخرى، مريع حقا”، ولا يحتمل البقاء في بيت لا يصلح للسكنى، وعند الخروج يرى إرنا أمام المطبخ، تنصحه بتوخّي الحذر عند البحر، ويجيبها “سأفعل”، تقول إنه لا يستطيع السباحة، ويردّ بأن هذا شيء سيء. ويخرج يوهانس فيرى سيجنه تُقبل نحوه، ولا تنتبه إليه، يناديها ولا تجيب، ثم “تخترقه وتنفذ عبر جسده فيشعر بدفء جسدها”، وتشعر سيجنه بجسده باردا، وتفكر “هل مات هو أيضا وهو نائم”، ولماذا ترك البيت غير مضاء؟ وهو يراقبها، ويقبل عليها ويكلمها ولا ترد. كان في طريقه إلى بيتر ليقص شعره، ويفكر في الرجوع إلى البيت؛ فلا بد أن ابنته آتية لزيارته، ويمكن تأجيل قص شعر بيتر. وتفتح سيجنه الباب، وتشعل المصباح، وتنادي أباها فلا يجيب، وتتناول يده وهو في سريره، وتلمس برودة جبينه ويده، تخاطبه ولا يرد، “الآن إذن قد مت يا أبي”، وتتصل بالطبيب، وتتذكر أباها وهو يمسك بيدها، ويقطعان الدرب، ويوهانس يفكر في قدوم بيتر ليقص شعره كما اتفقا، ويصل بيتر، ويستعد يوهانس لقص شعره، فيقول “لا لن تستطيع قص شعري بعد الآن يا يوهانس”، ويرد “لا أدري”، فيقول بيتر “أنت الآن ميت الآن يا يوهانس”، ثم يشرعان في قطع الدرب، ويخبره بيتر بأنهما سيرحلان إلى مكان آخر، ويؤكد بيتر لصديقه أنه مات صباحا، “ولأنني كنت صديقك الأثير، فقد بعثوا بي كي أحضرك”، لكي يذهبا إلى مكان لا اسم له. يسأله عما إذا كان هذا المكان خطرا؟ فيقول إن “خطر” كلمة، ولا يوجد كلام حيث نحن ذاهبان. “هل يؤلم؟”، فيجيب بيتر “لا توجد أجساد حيث نحن راحلان، ومن ثم لا ألم هناك”. من غير أن يصعدا إلى متن قارب بيتر، يجدان نفسيهما على متنه، ولا يسمعان ضجة المحرك، ولا يشعران ببرد أو خوف. ويسأله يوهانس: هل إرنا هناك؟ ويقول بيتر: كل شيء تحبّه كائن هناك، بمن فيهم أخته ماجدا التي ماتت قبل أن تبلغ، ويمضي بهما القارب إلى هناك، ويرى بريق عيني إرنا، “وعندئذ لم يعد بيتر مرئيا”، ولكنه يطمئن صديقه: نعم نحن على دربنا. “صباح ومساء”.. رواية تقرأ بعين الروح، وينصت إليها كمقطوعة موسيقية في مديح الحياة، والتدرب على استئناس الموت ومسامرته.

مشاركة :