«بورتريه ذاتية» لسيزان: الوجوه التي لا تريد أن تقول شيئاً

  • 6/10/2016
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

على رغم أن أصدقاءه كانوا كثراً وهو رسم عدداً منهم، ورسم في شكل خاص بورتريهات لزوجات بعضهم. وعلى رغم أن صداقته مع إميل زولا كانت، خلال مرحلة طويلة من عمريهما، صداقة نموذجية، فإن بول سيزان لم يكن معروفاً بحبه للبشر، أو بتعاطفه مع النوع الإنساني. ومن هنا، حين كان يريد أن يرسم بورتريهات شخصية، كان غالباً ما يتوجه الى «موديل» لم يكن من شأنه أن يخيّب أمله: كان يتجه الى ذاته، كما حال رمبراندت، أو فان غوغ، أو حتى ماكس بيكمان، ولكن لأسباب تختلف كلية عن أسباب أولئك. أسبابه هو كانت انطوائية تتعلق بنظرته الصارمة الى فعل الطاعة والمثابرة المطلوب من «الموديل» خلال الرسم. كان معروفاً عن سيزان تطلّبه المفرط من موديلاته. بالأخصّ كان يطلب منهم ألا يتحركوا على الإطلاق خلال ساعات رسمه لهم، ولو قيد أنملة. أما حين يحتج واحد منهم فكان الرسام يسأله غاضباً: «وهل تتحرك التفاحة ونحن نرسمها؟». كان من الواضح أن سيزان يريد من الموديل أن يجمد جامداً التفاحة التي كثيراً ما أبدع في رسمها إبداعاً أسطورياً. أما بالنسبة الى البشر، فإن إبداعه في رسمهم كان أقل. أو لنقل كان إبداعاً من دون مشاعر ومن دون أية سمات عاطفية. وحتى اللوحات التي رسمها لنفسه تبدو خالية من أي عاطفة. أما اللوحات العديدة التي رسمها لعشيقته هورتانسيا التي أصبحت لاحقاً زوجته وواصل هو رسمها على الشاكلة نفسها، فيبدو فيها اهتمام الرسام بخلفية اللوحة والملابس والكراسي، أكبر كثيراً من اهتمامه بملامح الوجه، إلا في حالات نادرة بالطبع. > يقيناً إن الرسام الكبير الذي كانه سيزان، لم يكن عاجزاً عن رسم العواطف والسمات على الوجوه، فقط كان فنه من الصدق الى حدّ أن لوحاته إنما عكست عجزه، إنسانياً، عن أن ينظر الى «كائناته» على أنها كائنات ذات عاطفة. بالنسبة إليه كان الوجه البشري جزءاً من الطبيعة لا أكثر. ومن هنا لم يكن غريباً أن يقول دائماً أن حلم حياته الفني هو أن يجد وسيلة تمكّنه من أن يدمج في لوحاته الإنسان بالطبيعة كلياً، بحيث لا يكون ثمة انفصال بين هذه وذاك. ولعله حقق هذا الحلم على الأقل في واحدة من أجمل لوحات سنواته الأخيرة «السابحون» الكبيرة التي بدأ في رسمها العام 1898 ولم ينهها إلا في العام 1905. هنا في هذه اللوحة، تصبح أجساد السابحين ووجوههم جزءاً من المشهد الطبيعي إنما دون سمات أو مشاعر. > والحقيقة أنه من الصعب على متأمل واحدة من البورتريهات التي رسمها سيزان لنفسه أو لامرأته أن يعثر في النظرات أو سمات الوجوه أو العيون على ما هو ذو طابع «إنساني»، وهو ما ينطبق على لوحاته عن المزارعين أو لاعبي الورق الذين يستحيل أن تنمّ سماتهم عن أية مشاعر. أما البورتريهات الذاتية التي رسمها، فإنها تعجز هي الأخرى عن تحديد علاقة الرسام بالزمن، حيث مثلاً في اللوحة المرسومة عام 1877 نجدنا أمام صورة رجل مكتهل مع أنه كان فقط في الثامنة والثلاثين! > مهما يكن، إذا كان في إمكان سيرة سيزان أن تقول شيئاً - خارج المعلومات «النادرة» التي يمكن أن نستقيها من لوحاته -، فإن ذلك لن يكون، في المقام الأول، أكثر من حيرته المبكرة بين أن يصبح كاتباً على غرار صديقه إميل زولا، أو محامياً كما كان يريد له أبوه. لم يكن ليفكر، حتى، في أن يصبح رساماً، ومن هنا فإنه لم يكتشف أن لديه مواهب في فن الرسم، إلا وقد أربى على الحادية والعشرين من عمره. لكنه ظل سنوات طويلة أخرى يكاد يكون هو الوحيد الذي يؤمن بمواهبه الذاتية. فالفشل كان نصيب معظم ما رسم من لوحات، والرفض كان مصيره في كل مرة كان يتقدم فيها للمشاركة في معرض من المعارض. وحتى حين كان يتمكن، بطريقة أو بأخرى، من فرض لوحة له في معرض، أو عند واجهة محل لبيع اللوحات، كانت سخرية الجمهور دائماً من نصيبه. ولقد بلغت به هذه الحال حداً لا يطاق لكنه أبداً لم يدفعه الى التخلي عن فنه. وحتى حين كتب صديقه إميل زولا روايته «العمل» التي تستوحي حياة رسام كان الفشل نصيبه الدائم، ما كان من صاحبنا إلا أن قاطع زولا بعد صداقة استمرت أكثر من ثلاثة عقود من السنين. > كان كل ما في حياة بول سيزان كرسام يدفعه الى الفشل والى التخلي عن فن الرسم: أسرته، أصدقاؤه، لوحاته نفسها واستقبال الجمهور والنقاد لها. لكن سيزان كسب رهانه آخر الأمر، وها هو اليوم يعتبر المجدد الأكبر في الفن التشكيلي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويكتب عنه النقاد يوم رحيله في العام 1906 بوصفه الفنان الذي عرف كيف ينقل اللوحة من مجاهل القرن التاسع عشر الى آفاق القرن العشرين. وفي نهاية الأمر كان فن سيزان انطباعياً، لكنه كان يختلف كثيراً عن فنون الانطباعيين الآخرين، على رغم مزاملته لرينوار ومونيه ومانيه. وهو كان نيوكلاسيكياً، لكنه يختلف مثلاً عن صديقه بيسارو. كان أكثر دنوّاً في الحقيقة من الفن الإسباني، بل لنقل انه في مجال تعاطيه مع مفهوم الضوء في اللوحة ومع اللون الأسود والألوان الغامضة، عموماً، كان أقرب كثيراً الى الإسبانيين، أي أنه بمعنى من المعاني كان حلقة الوصل بين غويا وتسورباران، وبين بيكاسو، الإسباني الأخير الذي نقل الى فرنسا، بعد سيزان وفي شكل يفضله وضوحاً، مجمل التراث البصري الإسباني. > ولد بول سيزان، وكان من أصل إيطالي كما هي حال زولا كما يبدو، في العام 1839 في ايكس - ان - بروفانس، وهناك خلال الدراسة الابتدائية تعرف بإميل زولا وارتبط معه بصداقة دامت طويلاً. وهو بتأثير من زولا قرر أن يتجه الى مسار إبداعي ما. ولكن، في البداية بدا أن الموهبة تنقصه. ومن هنا لم يتجه الى الرسم إلا وقد أصبح شاباً، غير أن كل الرسوم التي بدأ يحققها، كانت مجرد نقل للوحات كان يتفرج عليها في متحف اللوفر بعد أن انتقل، مع أمه، الى باريس في العام 1858. ومن هنا، فإن أياً مما كان يحققه من لوحات لم يلفت الأنظار، على الرغم من دراسته الرسم في شكل جدي في «المحترف السويسري» لمدة خمس ساعات يومياً، وعلى الرغم من أن صديقه بيسارو لم يتوان عن جمعه بشبان الرسم في تلك المرحلة من الذين سيبدعون المدرسة الانطباعية. مهما يكن فإن النقاد الأكثر إنصافاً قالوا انه لئن غاب عن لوحات سيزان في ذلك الحين البعد الجمالي الذي كان يميز لوحات زملائه، فإنه كان - على الأقل - يفوقهم جرأة ورغبة في التحدي، خطاً ولوناً ومواضيع. وربما نشأ من هنا ذلك الضرب من سوء الفهم للوحات سنواته الأولى وجعله يُرفض في معرض بعد معرض. > لكن سيزان لم يكن من الصنف الذي يُهزم وييأس بسرعة، لذلك نراه يثابر، ويستقي من الفن الإسباني ما أضاف الى أسلوبه، ثم جاءت وفاة والده ووراثته المادية له لتريحه مالياً بعض الشيء، فإذا به ينصرف كلياً الى الرسم، ويبدأ بتحقيق تلك اللوحات (لوحات الطبيعة الصامتة) التي راحت بالتدريج تلفت الأنظار وتفرضه كمتميز بين رفاقه. أما بداية شهرته الحقيقية فكانت بعيد العام 1880 حين راح الرسامون الشبان يكتشفون أعماله بالتدريج، وكتب عنه الناقد والكاتب هويسمان، مقالاً لفت اليه أنظار النخبة... ومهّد لدعوته الى معرض دولي في بروكسيل، كما الى تنظيم معرض شامل لأعماله في العام 1895 في باريس، وهو المعرض الذي أثار حماسة الرسامين الشبان وجامعي اللوحات في الوقت نفسه. ومن بعده لم يعد سيزان مجهولاً أبداً، بل صار ذا حظوة عند الجميع، وبدأ الدارسون يتوقفون عند أعماله الى درجة أن بعضهم راح يعتبره الأب الشرعي للعديد من التيارات الفنية التي سادت خلال النصف الأول من القرن العشرين، وفي طليعتها التيار التكعيبي والتيار الذي عرف باسم «التيار المستقبلي».

مشاركة :