تحولت ظاهرة هجرة الأدمغة في تونس إلى نزيف يؤرق البلاد التي هي اليوم في أمس الحاجة إلى كفاءاتها واستغلالها للخروج من الأزمة الهيكلية والاستفادة من مؤهلاتها ما دعا الحكومة إلى وضع خطة استراتيجية للحد منها. وتحتل تونس وفق تصريحات المسؤولين الحكوميين المرتبة الثانية عربيا من حيث هجرة الأدمغة بـ 100 ألف كفاءة اختارت الاستقرار في البلدان الأوروبية والعربية لعدة عوامل منها تدني الأجور وغياب البيئة الملائمة للعمل والبحث العلمي. وأحصت وزارة التعليم الحالي هجرة نحو 10 آلاف كفاءة خلال السنوات السبع الماضية التي تلت انتفاضة يناير لتضاف إلى 90 ألف هاجرت قبل الانتفاضة. وأقر خليل عميري وزير التعليم العالي بأن "هجرة الكفاءات أصبحت أمرا مقلقا" مشيرا إلى أن الحكومة تتعاط مع الملف بكل جدية لوضع حد للظاهرة الخطيرة". وتعود هجرة الأدمغة التونسية إلى السبعينات من القرن الماضي حيث بلغت آنذاك نحو 5 آلاف كفاءة غير أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية وما رافقها من بروز نخبة تتطلع إلى أوضاع مهنية أفضل وبيئة أكثر ملائمة للبحث العلمي دفعت بنحو 95 ألف كفاءة للهجرة خلال الأربعين سنة الماضية. ولم تقد سنوات الربيع العجاف بالكفاءات التونسية سوى إلى المزيد من الهجرة في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تغلب عليها الهشاشة حيث تمثل نسبة المهاجرين منذ انتفاضة يناير نحو 10 بالمئة من المهاجرين السابقين. وتعصف الظاهرة بنخبة النخبة من أطباء ومهندسين وقضاة وأساتذة جامعيين وأخصائيين في التكنولوجيا الحديثة وكذلك بأعداد من الطلبة المتفوقين في دراساتهم. ووفق أكثر من دراسة تخسر تونس سنويا المئات من الكفاءات التي تلقت تكوينا عاليا في جامعاتها وراهنت عليهم في تسيير مؤسسات الدولة وتحريك التنمية بما يعزز عملية التحديث الاجتماعي ويرفع من قدرات المجتمع في استخدام العلوم التكنولوجية. وكان رئيس الحكومة يوسف الشاهد صرح في وقت سابق بأن حكومته "قلقة" من ظاهرة هجرة الأدمغة متعهدا بوضع خطة لاستقطابهم والاستفادة منهم بناء على دراسة تشخص عواملها. غير أن الأخصائيين في الهجرة يرون أن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمهنية وتدني الأجور وغياب التشجيع على البحث العلمي تبقى العوامل الرئيسية التي تغذي هجرة الأدمغة بحثا عن أوضاع عمل أفضل بكثير مما هي عليه في تونس. ويرى الأخصائيون أن تونس في وضعها الحالي ليست فقط عاجزة على إقناع الأدمغة المهاجرة بالعودة إلى البلاد بل هي أكثر عجزا عن إقناع ما بقي منها بعدم الهجرة. وفي شهر اب/اغسطس 2017 أظهرت دراسة أعدها مركز تونس للبحوث الاستراتيجية أن 83 بالمئة من الكفاءات ترغب في الهجرة بحثا عن أوضاع مهنية أفضل وهو مؤشر مفزع بالنسبة للبلاد التي كثيرا ما راهنت على التعليم لتحقيق الارتقاء الاجتماعي. وبالمقابل أظهرت الدراسة أن 97 بالمئة من الكفاءات التي استقرت في بلدان الاتحاد الأوروبي وفي منطقة الخليج العربي أعربت عن عدم رغبتها في العودة للبلاد. ويرى مختار زغدود رئيس مركز تونس للبحوث الاستراتيجية أن الدوافع المادية تتصدر قائمة عوامل هجرة الأدمغة بنسبة 55 بالمائة نظرا لتفاوت الأجور من جهة ومنح التشجيع على البحث العلمي التي تكاد تكون منعدمة في تونس من جهة أخرى. وتبدو أجور الأدمغة متدنية جدا مما هي عليه في البلدان الغربية وفي بلدان الخليج حيث تشير الدراسة أن أجرة الطبيب في تونس تمثل نحو عشر الطبيب خارجها. ولا يتقاضى أساتذة الجامعة التونسية سوى أجر يقدر بنحو 2000 دينار، نحو 900 دولار مما قاد بالكثير منهم إما للهجرة أو اللجوء إلى مهنة ثانية لا تليق بمكانتهم. غير الدوافع المادية لئن كانت تمثل العامل الرئيسي للهجرة فإنها لا تقدم تشخيصا دقيقا إذ تتضافر مع دوافع أخرى منها اهتزاز المكانة الاجتماعية للكفاءات وغياب الأطر العلمية التي تعد حاضنة للبحوث والدراسات وغياب فرص تحقيق الذات. وترى حياة عمري الأخصائية في علم الكيمياء أن "أكبر صادرات تونس" عبر التاريخ هي كفاءاتها بسبب عدم إعطاء مؤسسات الدولة أي قيمة لها وعدم تمكين أصحابها من فرصة لإثبات براعتهم، في حين ترحب دول أخرى باحتضانهم". وتقول الأدمغة التونسية إن الدولة لا تشجع الكفاءات الوطنية وكثيرا ما تلجأ إلى خبراء أجانب في معالجة عدد من الملفات والحال أن الكفاءات التونسية لا تعوزها الخبرة. ولا تتردد الكفاءات التونسية في التعبير عن شعورها بالتهميش المهني والاجتماعي والسياسي أيضا وهي ترى أن النخبة العلمية تتعرض إلى تهميش ممنهج. ووفق وزارة التعليم العالي تبلغ كلفة تكوين الطبيب الواحد مليار دينار، نحو 450 مليون دولار ما يعني أن نزيف الهجرة يكبد الدولة خسائر تقدر يصعب إحصاؤها. وتستأثر البلدان الأوربية بغالبية هجرة الأدمغة بنسبة 60 بالمئة تليها الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 30 بالمئة وكندا بـ 25 بالمئة ثم بلدان الخليج بنسبة 15 بالمئة. وخلال السنوات الأخيرة طرأت تركيبة جديدة على ظاهرة هجرة الأدمغة إذ بات الأساتذة الجامعيون يتصدرون القائمة بنسبة 67 بالمئة تحت وطأة تدهور المقدرة الشرائية. وأدى هذا النزيف إلى إفراغ الجامعات التونسية من كبار الأساتذة المؤهلين لتأطير طلبة الدكتوراه والماجستير حيث تراجع عددهم من 17 ألف إلى 2300 أستاذ فقط. وهجرة الأدمغة هي ظاهرة عربية كثيرا ما تغذت منها البلدان الأجنبية إذ تشير دراسات أنجزتها منظمة اليونسكو أن المنطقة تساهم بنحو 31 بالمئة من أدمغة البلدان النامية من ينهم 50 بالمئة أطباء و23 بالمئة مهندسين وتستقطب كل من بريطانيا وأميركا وكندا نحو 75 بالمئة من العقول العربية. .
مشاركة :