حينما يصبح شخص ما نابغة بين أقرانه، يطلق عليه العرب مصطلح «عبقري»، وهو مشتق من وادي «عبقر» الذي يروى أنه كان مسكوناً بالجن الذين يوحون للشعراء وللأفراد النابغين بشعرهم وشتى مواهبهم! ولم يسلم من التشكيك أعلام الشعر آنذاك مثل النابغة الذبياني وامرئ القيس. ويبدو أننا أمام معضلة ما زالت ممتدة حتى يومنا هذا، فما أن يبزغ نجم عبقري حتى توجه إليه أصابع الاتهام والتشكيك، وكأن المبدع يحتاج لقوة خارجية تعلق عليها أسباب مواهبه. مثل الروائي الموهوب نفترض أن وراءه كاتباً خفياً يسنده. غير أن العلم الحديث أثبت خلاف ذلك، فصحيح أن أحد تفاسير العبقري بأنه يتمتع بمعدل ذكاء فائق يبلغ 140 درجة، غير أن أبحاثاً وتجارب واقعية أظهرت أننا يمكن أن نصقل «بعض» الأشخاص العاديين ليصبحوا موهوبين. فقد تمكن السويدي د. أندروز أريكسون أستاذ علم النفس في جامعة فلوريدا بعد عقد من الأبحاث للتوصل إلى أنه يمكن للفرد العادي أن يصبح عبقرياً بطرق عدة منها «تقوية ذاكرته»، بحيث يمكنه تخزين معلومات هائلة ومهمة يستعين بها في معترك الحياة وتحدياتها. فقام مثلاً بتدريب مشاركين على حفظ أرقام عشوائية تجاوز السبع خانات التقليدية التي بنيت عليها فكرة أرقام الهواتف. إذ استطاع أن يرفع المقدرة على الحفظ تدريجياً حتى بلغت نحو 100 خانة. وقد أطلعني مالك إحدى المدارس العربية الخاصة، على النظام الرياضي الآسيوي (الآسيوي وليس الغربي) الذي مكنهم من جعل الأطفال يتطورن بصورة مذهلة في سرعة الحساب الشفهية من دون آلات حاسبة. ولحسن الحظ بأن الذكاء لم يعد تقليداً، ولا مرتبطاً بالحساب، ولا نابعاً من خرافة «وادي عبقر» الواقع في نجد أو جنوب الجزيرة العربية كما يشاع، بل يعود إلى أطياف متنوعة من الذكاء. فقد قدمت أبحاثاً علمية رصينة فروعاً جديدة للذكاءات المتعددة، والذكاء العاطفي والحركي أو الرياضي وغيرها. وأعتقد أن بين ظهرانينا من يتمتع «بذكاء فني» مبهر لو أنه تخلص من عقدة المجتمع التي تلزمه بإنهاء المرحلة الجامعية بدلاً من المعاهد المهنية vocational. إذ تتجلى قدرات هؤلاء العرب فنياً حينما نراهم وهم يتوصلون إلى حلول مبتكرة مثيرة للإعجاب وربما غير مسبوقة للمشاكل التي تواجهنا في البناء أو إصلاح الأعطال المتعددة في شتى أنواع الأجهزة والصيانة، لا يستطيع أن يفعلها أكبر عالم موسوعي. يمكن أن يصبح في كل حي سكني وادٍ من العباقرة الذين تصقلهم المدارس، بتعليم يتماشى مع روح العصر ومتطلباته. ناهيك عن العباقرة بالفطرة. وقد رأيت أشخاصاً نوابغ في أرفع الجامعات الغربية أتوا من أقاصي الشرق، ومنهم عرب، ولكن من بيئة تعليمية متميزة فنافسوا الغربيين في عقر دارهم. كل ما في الأمر أننا نحتاج إلى بيئة حاضنة ووظائف تصقل من بهم بذرة موهبة قبل أن تحطم معنوياتهم أساطير «بني عبقر».
مشاركة :