أطلقت «دار الصياد» مؤخراً كتابًا يؤرخ جذور عائلة آل فريحة التي ارتبط اسمها بالصحافي الراحل الكبير سعيد فريحة، والذي ينتمي لواحدة من أعرق الأسر المسيحية البيروتية اللبنانية العربية.الكتاب – الذي حمل اسم «الغساسنة .. جذور عائلة سعيد فريحة» جاء كنتاج لجهد وبحث علمي كبير استند على وثائق تاريخية تسرد جذور آل فريحة التي تعود بالأصل الى الغساسنة الذين يشكلون تاريخ الروم الأرثوذكس في المشرق العربي «مسيحيي المشرق» الموزعين على بلاد الشام او ما يعرف جغرافيا بـ«سوريا الطبيعية»، والذين تنتمي اليهم عائلات مسيحية عربية كان لها دور عروبي بارز في مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. ويحكي في مقدمة الكتاب الكاتب الصحفي البارز بسام سعيد فريحة قصة ولادة هذا الكتاب الذي لطالما استمع لأحاديث والده عن جذور الغساسنة وعمق ارتباطهم بالتاريخ وبالعرب والعروبة، والتي استقرت في قاع الذاكرة قبل ان تحظى بحصتها من السرد لأبنائه كما كان يفعل والده الراحل سعيد فريحة، لكنه اعتمد في سرد عمق هذه الجذور على شبه مخطوطة تاريخية تتحدث عن جذور العائلات اللبنانية، ومنها آل فريحة بشكل خاص والذي اعتبره المحفز الأكبر لإصدار مثل هذا الكتاب ليأتي حافزاً آخر حول أهمية الجذور والانتماء خلال حديث دار في مجلس نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولي عهد أبوظبي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان الذي انبثقت في مجلسه فكرة هذا التوثيق الهام لاسيما أمام اهتمام صاحب السمو ودعمه وسؤاله الذي حفز بسّام فريحة للشروع في هذا العمل الكبير الذي أراد من خلاله أن يوثق جذور عائلة فريحة امتداداً من الأجداد الغساسنة وصولاً الى عميد العائلة الراحل سعيد فريحة. ولا يغيب عن حروف بسّام فريحة عمق التقدير لوزير الديوان الملكي الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة الذي وضع مقدمة لهذا الكتاب تحدث فيها عن الحضور الملموس للنصرانية بين ملوك العرب والقبائل لاسيما التي تحضرت منهم، وكذلك من كان لهم تنظيم سياسي يفوق القبيلة خصوصاً القبائل العربية على أطراف الجزيرة العربية في العراق حيث كان «المناذرة»، وفي الشام حيث كان «الغساسنة»، وما تميز به مسيحيو المشرق باندماجهم شبه الكلي في المجتمع الإسلامي وكذلك مع الفاتحين المسلمين في بوتقة العروبة. ويتناول الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة في مقدمته لهذا الكتاب أصول الغساسنة الذين ينحدرون من قبائل الأزد اليمنية وتحديداً قرب سد مأرب قبل ان يبدأوا بالهجرة من اليمن تحت قيادة زعيمهم عمر بن عامر مزيقياء بعد أن انهار السد نتيجة السيول العارمة في نهاية الألف الأولى قبل الميلاد لتتجه القبيلة الى تهامة جنوب الحجاز وتقيم مدة من الزمن عند عين ماء تسمى «عين غسان»، والتي اتخذت منها التسمية قبل أن تكمل القبيلة هجرتها الى جنوب بلاد الشام التي كانت تحت حكم الرومان، فيما تولى الغساسنة فيما بعد جنوب الشام بمباركة الروم البيزنطين، حيث اعتنق الغساسنة المسيحية الأرثوذكسية الشرقية، وشمل نفوذهم جميع القبائل النازلة في منطقة جنوب الشام «حوران» والأردن وفلسطين، حيث كان امتدادهم بين الجولان واليرموك. فيما ترك الغساسنة شواهد على حكمهم لا زالت ماثلة للأعين ومنها قلعة عمان، وقصر برقع، وكاتدرائية الرصافة. ويختتم الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة في توطئته لهذا الكتاب بالاشارة الى انتهاء حكم الغساسنة في العام 636 م وتحديداً بعد معركة اليرموك بين المسلمين والروم «الامبرطورية البيزنطية» والتي شكلت بداية انتصارات المسلمين خارج الجزيرة العربية ونواة تقدم الإسلام في بلاد الشام، حيث أسلم من الغساسنة من أسلم ومنهم من بقي على دينه ليومنا هذا، إلا أن الجذور والثقافة العربية بقيت هي الهوية الجامعة ليشكل الدين الهوية الفرعية التي باتت تستظل بالعيش المشترك. ويتضمن الكتاب سرداً لملوك الغساسنة الذي يختلف حول عددهم ما بين 32 ملكاً بحسب حمزه الأصفهاني يقدر المسعودي عددهم بـ 11 ملكاً وأشهرهم الحارث بن جبلة وجفنة بن عمرو المعروف بـ(مزيقياء). وينتقل الكتاب الى تاريخ الغساسنة الذي يشكل أصل المسيحيين العرب الذين تحولوا من الوثنية الى الأرثوذكسية الشرقية مستعرضاً جوانب اعتمد فيها على المصادر السريانية والتي وثقت تاريخهم في القرنين السادس والسابع الميلادي لاسيما المؤرخ يوحنا الآسيوي الذي عاصر آخر ثلاثة من ملوكهم.كما يتناول الكتاب تاريخ مملكة الغساسنة العربية المسيحية بالاعتماد على كتاب «تاريخ الكنيسة السريانية الشرقية» للأب البير أبونا والذي يشير فيه الى أديرة الغساسنة في كل من دمشق والجولان وسهل حوران – جنوب سوريا – شمال الأردن حالياً – ولبنان ومكانة ملوك الغساسنة عند المسيحيين الشرقيين، حيث شكلوا بالنسبة لهم زعماء علمانيين ليس في بلاد الشام فحسب، بل ايضا في مصر، حيث يتبع غالبية مسيحيي مصر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الشرقية. ومن الملفت في هذا الكتاب عرض وثيقة «رؤساء الأديرة العرب»، والتي تعتبر من أهم الوثائق السريانية القادرة على فتح جدل حيال مسائل كانت بمثابة المسلمات لدة العديد من الباحثين. وينتهي الكتاب في سرد الغساسنة عبر التاريخ عند الأمير غاريوس غسان مؤسس ورئيس منظمة البيت الملكي الغساني ومقره مدينة لوس أنجلوس، والذي يعتبر الوريث الشرعي للغساسنة المسيحيين العرب والسليل لآخر ملوكهم، ليبدأ فصل جديد يسلط الكتاب فيه الضوء على أشهر العائلات البيروتية المسيحية العربية ومنها آل فريحة – التي تشكل موضوع الكتاب – وآل فليحان – التي جعلت الظروف السياسية والأمنية والاجتماعية بعض أفرادها اعتناق العقيدة الدرزية. وآل فريج – الذين لديهم انتشار واسع في كل من العراق والأردن وفلسطين ولبنان ومنهم من اعتنق الإسلام، ومنهم من بقي على المسيحية – وقد برز منهم آل فريج في لبنان في عهد الانتداب الفرنسي على الصعيد السياسي والاقتصادي، ما دفع بالفرنسيين ليصبغوا عليهم لقب «دي فريج» وهو اللقب الذي يمنح للعائلات العريقة. وبعد الاستقلال شغل الكثير منهم مناصب سياسية. كذلك آل فلاح – الذين توطنوا بيروت في عهد الانتداب ومنهم في عهد الدولة العثمانية. وآل فوعاني – المنتشرون في لبنان حلب وفلسطين والسعودية – ويعتبرون من العائلات البيروتية المسلمة الشهيرة والتي تتوزع اليوم ديموغرافياً بين مناطق بيروت. وآل الفيومي – وهي من الأسر المسلمة البيروتية اللبنانية العربية التي كان للأجداد فيها دور في فتوحات الإسلام في مصر- فيما استقر الأحفاد في بيروت. ويتضمن الكتاب سرداً لآل فريحة التي اتخذت اسمها من اسم لقبيلة غسانية عربية، وهي صيغة من الاسماء العربية التي تطلق على الفرح.ويعتبر آل فريحة نموذج لعائلات مسيحية أرثوذكسية عربية برزت في سوريا ولبنان، حيث انتشروا في بسكنتا، وراس المتن، وبيت مري ووصليما، والبترون والبربارة. ومن أشهر شخصياتهم الأديب المرحوم الدكتور أنيس فريحة المولود في العام 1903، والدكتور فؤاد فريحة ورالف نادر فريحة – الذي يعتبر من أهم نشطاء حقوق المستهلكين في العالم – والشيخ طنوس فريحة – الذي شغل معظم حياته رئاسة اللجنة التنفيذية لحزب الكتلة الوطنية – والطبيب والكاتب جورج فريحة. كما يستعرض الكتاب بعضاً من صور لقرية راس المتن ومدرسة السرايا التي كانت تعرف باسم مدرسة «اوليفر» والتي علمت الكثير من أبناء آل فريحة. ويعرض الكتاب الى قائمة بأسماء شهداء آل فريحة الذين سقطوا في حرب الجبل في خريف العام 1983 – التي وقعت بين المسيحيين والمسلحين الدروز، والفلسطينيين واليسار المسيحي.«عائلة سعيد فريحة .. من الجذور التاريخية للغساسنة ومن الروم الأرثوذكس»يستعرض الكتاب سيرة حياتية للصحفي الكبير الراحل سعيد فريحة المولود في العام 1905 والذي قدر له أن يعيش ثلاثة حروب واختبر اليتم وتردي الأحوال خلال الحرب العالمية الأولى التي أدت لحدوث مجاعة دفعت به وبغيره من أبناء بيروت الى الهجرة نحو سوريا، حيث استقر سعيد في مدينة «حماه» مسقط رأس أمه. لكن موت والدته وشقيقه جعل ابن العاشرة يتحمل مسؤولية شقيقين صغيرين ليعيش طفولة لم تخلُ من المعاناة على الاطلاق، إلا أنها صنعت منه إنساناً سطور طفولة لم تخلُ من المعاناة على الإطلاق بين الحرمان والبؤس، صنعت منه إنساناً عصامياً نجاحاً. ولعل هجرة الأب – والد سعيد فريحة – الى البرازيل والهروب من ضيق العيش الذي فرضه الأتراك على اللبنانيين ومعظم أبناء بلاد الشام غيّرت من حياة سعيد فريحة الذي عانى ويلات الحرب. فهذا الصغير الهارب من الحصار التركي اكتسب خبرة ووعياً أكبر من سنه ليدخل معترك الصحافة في جريدة «الراصد» قبل أن ينتقل الى جريدة «التقدم» الحلبية، وقد قدر له أن يشهد في تلك الفترة تحولات سياسية كبيرة كان الحماس للكتلة الوطنية، ولعل هذه النقلة النوعية في حياته ما قربته من جريدة «الحدث» ولقائه برياض الصلح والتعاون الطويل الى أن صدرت «الصياد» في العام 1943 لتحمل لواء الاستقلال وتشكل ثورة على رجال الانتداب. وقد كان لصورة كاريكاتورية لجندي فرنسي سنغالي يدوس بقدمه العارية على اللبناني ويقول بفرنسية مكسرة «أنا جئت لأمدنكم» أثراً كبيراً لاسيما أن هذه الصورة قد طبع منها آلاف النسخ، ما أدى الى صدور اوامر باعتقاله او خطفه وقد اعتقل بالفعل ما بين عامي 1946 - 1947. لم تكن ولادة «الصياد» مخاضاً سياسياً ناضل بالقلم ضد الانتداب، بل ايضا مخاض حياتي نوعي بالنسبة لقامة صحفية مثل سعيد فريحة، لقد رافقت «الصياد» حكومة بشامون والصحوة الوطنية الأولى مع الدستوريين، وتناهض حكم الشيخ بشارة، وتسلطن الشيخ سليم الخوري على مقدرات الحكم والجمهورية، واصطدمت بمفهوم الأسر الحاكمة ليبقى سعيد فريحة يقاتل بالقلم ويثبت كل مرة أن السجن لابد منه كثمن كي يبقى صحفيًا لا يهاب الحاكم من أجل لبنان حر.
مشاركة :