* بالأمس القريب، ودعنا (الجنادرية) ابنة الثلاثة عقود وتزيد قليلاً في تظاهرة من الحسن والفن والإبداع. * في البدء السحيق، كانت (الجنادرية) مفردةً جغرافية.. بلا تاريخٍ.. ولا ذكْرٍ.. ولا ذِكرى! * واليوم غدت (منصة) إبداع تزف من خلالها الثقافة والتراث كل عام إلى حواس الإنسان العربي سمعاً وبصراً وفكراً ووجداناً. * * * * وقبل هذا وذاك، كانت الجنادرية (حورية) سمراء تفْترشُ الصحراء.. وتتوسَّدُ الثَّرى، وتكَابدُ ريح الوحْشَة ورَياحَها آناءَ الصيف وأطرافَ الشتاء! كان ربيعُها كخَريفَها، طيفاً لا تكادُ تدركُه الأبصَارُ، حتى الطيوُر المهَاجرة كانت تعْبر سماءَها مسرعةً.. إذْ لا ماء فيها.. ولا ظلّ! * * * * وفجأة.. تبدَّل الحالُ.. اقتحم عقلُ الإنسان وخيالُه سكونَ الجنادرية، لينْهيَ اعتكافَها الأزليَّ في مجاهل الزمن.. ويحيلَ وحْشتَها ألفةً.. وصمتَها صَخَباً، وجدَبَها فناً وعطاءً! * * * * بدأ الزفاف السنوي لـ(الجنادرية) قبل أكثر من ثلاثة عقود في عرس مهيب ما برح يتجدّد هيبةً وفنّاً وشموخاً عاماً بعد عام، بات لنا.. وللناس معنا في كل مكان، عبر الجنادرية، موعدٌ نترقّبُه.. ونهفُو إليه، وأضْحَى للإبداع سحابة من لؤلؤ تُمطر كلَّ حول.. فتشرقُ بضوْئها وضَوْعها أرضَ الجنادرية، شعراً ونثراً ومسرحاً ورواية، وغدت ندواتُها الفكرية زاداً ثقافياً تَرتَادُه العقولُ من كل مكان، وهي بمقاييس عدة، معْلمُ جميل تُعرَفُ به الجنادرية وتَعرَّف، إقليمياً وعربياً! * * * * لقد أثبْتَت (الجنادرية) عَبْر السنين قدرتَها على تجسير الفجوة بين حاضر إنسان هذه الجزيرة وماضيه، جسدت التآخي بين أصَالة جذره التليد، وجَزالة عَطائه المتجدّد، منحتْ هُويّة إنسان هذه الأرض بعْداً رائعاً أسهم ويسهم في تصحيح ما علق في بعض الأذهان القريبة والبعيدة عنه من سُوء في الفهم، وسُقْم في الظن، وعِوَج في الرؤية، كالقول بأنه لم ولن يقوم لهذا الإنسان شأن إلاّ بالبترول.. وأنه بالبترول وحده.. يكون أو لا يكون! * * * * أزعم أن في (الجنادرية) رداً موجزاً ومبدعاً لهذا المفهوم، لأنها تحكي سيرة هذا الإنسان.. تراثاً وفكراً وإبداعاً، يتجاوز أثره وتأثيُره حدودَ الجهل به والتجاهل له! * * * * وها هو الأن يعانق التاريخَ والحاضر، ويقفَ شاهداً على انتماء ابن هذا البلد إلى كوكبة العَطاء الإنسَاني، وقدرتِه على التكيّف مع ظروفِ زمانهِ ومكانهِ، عُسْراً ويسْراً، قبل البترول وبعده! * * * * من واجب إنسان هذه الجزيرة أن يفخر بموروثه، فلولاه.. لتاه في عُباب الزمن وذاب، ومن حقه أن يهنأ بما أنجزه هو، وبدونه.. لن يجد جيله القادم شيئاً يرثه ويزهو به بعد حين! * * * * هذه باختصار شديد، رسالة حب وفخر عن (الجنادرية) ومدلولها تاريخاً وحدثاً، فهي رمز جميل لكبرياء الماضي، وعنفوان الحاضر وطموح المستقبل، وهي قيثارة إبداع يتردد نغمها البليغ سنوياً.. في أرجاء الوطن العربي.. فتستجيب له الأفئدة مسرعة، من الخليج إلى المحيط!
مشاركة :