تعرض في نيويورك مسرحية "المحظوظ"، بطولة الممثل المبدع توم هانكس، لكنها تتحدث عن صحفي محظوظٍ باختيارات موفقة، تؤهله للحصول على أثمن جائزة في عالم الصحافة. وبعيداً عن تلك المسرحية، فما احتمال أن تفوز أنت وأبناؤك الخمسة في قرعة لتوزيع بضع مئات من قطع أراضٍ في بلدة سكانها عشرات الآلاف؟ اعتقد يكاد أن يكون صفراً، فما بالك إن كان تعداد البلدة مئات الآلاف؟ الأمر يخضع لعلم الإحصاء، الذي يوفر لنا طرقاً لاحتساب احتمالية وقوع الأشياء بما فيها الحالة التي ذكرت (أن يفوز أب وأبناؤه الخمسة في قرعة بست قطع أراض). والأمر فيه تفصيل، لكن الحديث هنا عن احتمالية أن يفوز أفرادٌ من بيت واحد! هذا أمر يتجاوز الاستغراب إلى التأمل في فتح تحقيق. وكنا سمعنا قبل مصادفات قرعة الأراضي عن حصول عدد مماثل من أخواتٍ شقيقات على وظائف دفعة واحدة. يقول د. عبدالله العمار: "المعنى اللغوي للقرعة (بضم القاف) الاستهام على أمر مشتبه لتعيين من يستحقه، وخلص إلى تعريفها في الشرع بأنها "وسيلة لتعيين الحق المبهم أو المشتبه، أو تمييز المستحق غير المُعَين عند التساوي والتنازع بكيفيةٍ مخصوصةٍ." وهكذا، فلجوء جهة ما للقرعة ينبع من رغبتها في الإنصاف والنأي بنفسها عن التحيز والمحاباة، وما دام الأمر كذلك فلا بد من التأكد من أن منهجية وخطوات وإجراءات التنفيذ برمتها تلتزم بذلك النهج، حتى تتساوى فرص الجميع للفوز، ومن ذلك أن تكون القُرعة: علنية، وتحت إشراف جهة مستقلة، وأن تكون الجهة ومن يعمل فيها بعيدين عن أية شبهة لتضارب المصالح. وهذا يعني ألا تقوم الجهة التي لديها الأراضي -مثلاً- بتنظيم وعقد القُرعة خلف أبواب موصدة، بل عليها اللجوء لجهة محايدة، وأن تعمل الجهة المحايدة تلك تحت إشراف مكتب مراجعة معتبر؛ للإشراف على سلامة الإجراءات، وفوق ذلك أن تكون سلسلة الإجراءات شفافة تماماً. وقد يستنكر البعض الدخول في "تعقيدات" مما ذكرته أعلاه، باعتبار أن الأمر لا يستحق، لكن الرد هو: إما أن تُعقد القُرعة كما يجب أو لا تعقد، فإن عقدت كما يجب تكون صحيحة ونتائجها معتبرة، وإلا فهي قرعة "مضروبة" ومتحيزة؛ كونها لم تُحَصنّ من التأثيرات التي قد تُحَسن فرص البعض على حساب البقية. وإذا كان لا بد من اللجوء للقُرعة كأداة للتوزيع الذي لا يميز بين المتقدمين للحصول على أرضٍ أو وظيفةٍ، فلعل من الملائم الركون للتقنية ركوناً تاماً، بحيث تُدخل أسماء المشتركين في القرعة، ويضرب تطبيقٌ حوسبي القرعة بينها؛ فالتطبيق ليس خالاً أو عماً أو قريباً أو صديقاً أو من جماعة أحدّ، وبشرط الإعلان المسبق عن أسماء من ستعقد القرعة بينهم، ومنح الخيار لمن يريد منهم أن يحضر القرعة أو يتابعها عبر الانترنت، وأن تعلن أسماء من وقعت القرعة عليهم في توها ولحظتها وعلى الملأ، إذ أن أي تكتم أو تأخر سيكون مدخلاً للطعن في سلامة القرعة وحياديتها. لكن أعود لأتساءل: هل من الضرورة أن تترك أمور الحصول على وظيفة أو قطعة أرض للقرعة؟ أم علينا التخلي عن القرعة بأن نجمع بيانات كاملة وصحيحة تمكنا من استخلاص من هو الأجدر أو الأعلى استحقاقاً، بناءً على أُسس موضوعية؟ وعلى كل حال، فأمر قُرَع الأراضي وترشيحات الوظائف جديرٌ أن يحظى بتمعن وفطنة "نزاهة" وصولاً إلى لائحة تبين الممارسات الواجب إتباعها لعقد قرعة صحيحة؛ للاختيار من بين متساويين.
مشاركة :