يريفان - إن القضايا الرئيسة التي ينبغي على الأتراك مواجهتها تتمثل في عدم قدرتنا أو رفضنا الاعتراف بالعنف الذي ارتكبناه، وبشكل خاص، المذابح والإبادة الجماعية التي ارتُكبت ضد المواطنين المسيحيين من الأرمن والآشوريين واليونانيين.. بهكذا إقرار افتتح المؤرخ التركي تانير أكشم كلمته أمام البرلمان السويدي، الثلاثاء، أدلاها خلال مراسم إحياء الذكرى السنوية للإبادة الجماعية للأرمن، التي وقعت في عام 1915، ونقلها موقع أحوال التركية. يعتقد المؤرخ التركي أن مكافحة الأتراك من أجل إقامة نظام يحترم حقوق الإنسان يرجع إلى معضلة أساسية تتمثل في رفض النظام مواجهة الجرائم التي ارتكبت في الماضي، مشيرا إلى أن التحديات غير مقصورة على الشؤون الداخلية لتركيا، لكن تمتد أيضا إلى المنطقة الأوسع. ويرى أن العمليات العسكرية في سوريا والحرب مع الأكراد من مظاهر هذا العجز عن مواجهة الماضي. وتساءل أكشم “لماذا ينبغي علينا أن نواجه تاريخنا؟ ولماذا يجب علينا إحياء ذكرى وتذكر الجرائم التي وقعت في الماضي؟ يقدّم المؤرخ أسباب أساسية ومترابطة في نفس الوقت للإجابة على هذين السؤالين، ويرى أنه “إذا لم يستطع الأتراك القيام بتصفية حساب صادقة لجرائمهم، والدخول في حوار جاد مع الأرمن واليونانيين والآشوريين، والإنصات إلى تواريخ هذه المجتمعات ذات الألم العميق، فإن مجموعات الضحايا لن تشعر أبدا بأي إجراء من الثقة بالنسبة للأتراك. والسبيل الوحيد أمام الأتراك لتحقيق التعايش السلمي في بلدهم، ومع جيرانهم، هو أن تعترف الحكومة التركية وشعبها (بمن في ذلك الأتراك والأكراد والعلويين والسنّة..) بصدق بالأخطاء التاريخية، وقبول مسؤولية أعمالهم. ودون المواجهة الصادقة وقبول هذا التاريخ المؤلم، فلن يكون هناك بناء مستقبل مشترك على الإطلاق. أحيا الأرمن الذكرى السنوية لضحايا المجازر التي وقعت بين 1915 و1917 في عهد السلطنة العثمانية، الثلاثاء، في أحداث يصفها الأرمن بـ”الإبادة” ويحمّلون تركيا المسؤولية عنها. لكن النظام التركي يصر على رفضه الاعتراف بجرائم الماضي متجاهلا الكرامة الإنسانية للشعوب وشروط العيش المشترك، ويكشف هذا الإنكار مواصلة سياسته العدوانية محليا وإقليميا بحجة الدفاع عن أمن بلاده القومي أما السبب وراء “لماذا يجب علينا مواجهة التاريخ؟” فيجيب عنه أكشم قائلا “نحن نتذكّر الماضي ونحيي ذكرى الأعمال الوحشية الجماعية، لأن هذا يعدّ أحد المتطلبات الأساسية للمجتمع الديمقراطي. ولإقامة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، فمن الضروري في البداية مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان”. ويتابع “الاعتراف بالمظالم التاريخية ضروري لإقامة بيئة ديمقراطية يمكنها تقدير قيمة حقوق الإنسان. ويترك إنكار الأخطاء التاريخية الباب مفتوحا على مصراعيه لخطر محتمل يتمثّل في تكرار نفس الجرائم ونفس الأخطاء مرة أخرى”.ويرى أكشم أنه “بإنكار تركيا للمذابح والجرائم، فإنها ترسل رسالة بأنها سترتكب نفس الجرائم مرة أخرى، إذا ما تعرّضت للتهديد. ولهذا السبب، فليس من قبيل المبالغة الادّعاء بأن تركيا تمثّل تهديدا محتملا على المنطقة بأكملها”. توجه أيديولوجي خاطئ يفسّر المؤرخ التركي نقطتي سوء فهم رئيستين في ما يتعلق بإنكار الإبادة الجماعية، وبشكل خاص، الإنكار التركي لارتكاب هذه الإبادة. أولا: يعتبر الإنكار في الغالب توجّها أيديولوجيا خاطئا، لكنه متسامح تجاه الأعمال الوحشية الجماعية. وتتعلق النقطة الثانية لسوء الفهم بالنقطة الأولى، وتفترض أن إنكار المواجهة يكون عن تشكيل موقف “أخلاقي” تجاه جريمة واحدة تظل منسية في صفحات التاريخ. وأي ارتباط مع الحاضر يتمّ فصله بجدران بصورة فعّالة. وهذان التصوّران الخاطئان ما هما إلا نتيجة منطقية لما أطلق عليه المؤرخ التركي “تقسيما مؤقتا” وتحديدا: الميل إلى وضع الماضي والحاضر في صندوقين مختلفين، وتجاهل الترابط بينهما. ويمثّل قطع العلاقات بين الإنكار والمشاكل السياسية المعاصرة إشكالية كبرى. فالإنكار ليس فقط عن توجّه أيديولوجي نحو الماضي، ولا يقتصر طلب الاعتراف بالجرائم التاريخية على قناعة أخلاقية ماضية. بل هو عبارة عن هيكل لا يمكنه أن يحذف ببساطة الأعمال الوحشية التي ارتكبت في الماضي. والهيكل الإنكاري أنتج ويواصل إنتاج سياسات في عصرنا الحالي. في هذا الصدد قارن المؤرخ الإنكار التركي بنظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. ويرى أن النظام، وعقلية، ومؤسسات نظام التمييز العنصري تأسست جميعها على الاختلافات العرقية، ولإنكار الإبادة الجماعية الأرمينية نفس الجذور. ويلاحظ أكشم أنه “تم اختلاقه بناء على التمييز واستبعاد الأقليات العرقية – الدينية وعلى اعتبار أن المطالب الديمقراطية لهذه الجماعات تمثّل تهديدا للأمن القومي يجب القضاء عليه”. ويرى أن “إنكار هذه الحقيقة أساس الفكرة التركية للأمن، والتي لم تتأسس فقط على إنكار الجرائم، بل على إدراك أن الترويج للمطالب الديمقراطية الأساسية، مثل المساواة أمام القانون والإصلاح الاجتماعي وحرية التعبير تمثّل جميعها تهديدا للأمن القومي”. وحسب المؤرخ تكمُن المفارقة هنا في “أن إنكار الإبادة الجماعية وتجريم المطالب بمجتمع أكثر ديمقراطية وعدالة بسبب الأمن القومي هي العراقيل الحقيقية في طريق الديمقراطية”. ويؤدي الرد التركي العنيف على مطالب حقوق الإنسان إلى نتائج عكسية. وفي الحقيقة، فقد أدّى هذا الردّ مباشرة إلى حدوث مشاكل أمنية حقيقة. سياسة قمعية متواصلة كان “تحقق النبوءة ” هذا هو السبب الجذري للإبادة الجماعية للأرمن، وشكّل المشكلة الكردية حاليا حسب تعبير المؤرخ التركي. وبدلا من حلّ المشاكل الكردية عن طريق البحث عن حلول يمكن أن تؤدّي إلى مجتمع أكثر ديمقراطية، فقد بعث الإنكار ذو الطابع المؤسسي نفس الفكرة الأمنية، وأعلن أنّ المطالب الكردية تمثّل مشكلة أمنية أساسية للأمة. وتعتبر هذه هي القصة القصيرة لغزو الجيش التركي لسوريا. تانير أكشم: بإنكار تركيا للجرائم، فإنها ترسل رسالة بأنها سترتكب نفس الجرائم مرة أخرى تانير أكشم: بإنكار تركيا للجرائم، فإنها ترسل رسالة بأنها سترتكب نفس الجرائم مرة أخرى لذلك يرى أكشم أن “الصورة واضحة جدا: فعن طريق إنكار ما حدث في عام 1915، أعادت تركيا إنتاج المؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والعقلية التي خلقت أحداث عام 1915 في المقام الأول”. ويضيف “الإنكار ليس ببساطة دفاعا عن نظام قديم (الإمبراطورية العثمانية). إن الإنكار يغذّي أيضا سياسات العدوان المتواصل داخل تركيا وخارجها اليوم”. لافتا إلى أن “عرض الترابط القوي بين إنكار تركيا للإبادة الجماعية للأرمن والسياسات المحلية والإقليمية لتركيا حاليا ليس صعبا”. يشرح ذلك قائلا “دون الخوض في تفاصيل التطورات المظلمة المستمرة في تركيا اليوم، وبشكل خاص منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في يوليو عام 2016، اسمحوا لي أن أُعبّر عن الوضع الراهن بالأرقام”. يقول أكشم “يوجد حاليا أكثر من عشرة من نواب البرلمان، وقرابة 150 صحافيا في السجن، كما أُجبر حوالي أربعة آلاف أكاديمي على الاستقالة من مناصبهم، وتم تدمير مدن كردية وحرقها وتسويتها بالأرض”. وبالإضافة إلى هذه الحقائق، فإن تركيا تعاني من هجرة جماعية للنخبة المثقفة في البلاد، وربما تكون الأكبر في تاريخ البلاد. لذلك يحذّر المؤرخ من أن “تركيا تركض نحو نظام استبدادي، إن لم تكن قد أصبحت تحت هذا النظام بالفعل”. واستخدمت الحكومة التركية محاولة الانقلاب كذريعة لقمع المعارضة الديمقراطية، وحجة الحكومة الرئيسة في دعم هذه السياسات هي أنّ طلب المزيد من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، يمثّلان تهديدا على الأمن القومي وينبغي قمعهما قبل انتشارهما. ويمثّل العدوان على سوريا جزءا آخر من سياسة الأمن القومي التركي هذه. وقامت تركيا بغزو سوريا عندما أدركت أن المطالب الكردية من أجل بناء ديمقراطي في سوريا أو في تركيا تمثّل تهديدا للأمن القومي. وكان ضياء كوك ألب، أحد الأيديولوجيين في حزب تركيا الفتاة وأحد مهندسي السياسات العثمانية المتأخرة، قد وصف العدوان العثماني على الشرق خلال الحرب العالمية الأولى وشبهه بأنه “تفاحة حمراء”. وتمثل “التفاحة الحمراء” معتقدا يعود تاريخه إلى تقاليد تركية قديمة، وتهدف إلى انعكاس الهيمنة التركية على العالم. وعند الحديث عن المعارك والانتصار، فإن الأتراك العثمانيين يشبهون انتصارهم بأنهم وصلوا إلى “التفاحة الحمراء”. وأصبحت “التفاحة الحمراء” ترمز إلى فكرة القومية التركية، وتوحيد جميع الشعوب التركية. ومعرفة هذه الأسطورة حاسمة لفهم الإبادة الجماعية للأرمن. ويكشف هذا بشكل كبير عن إشارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى هذا الرمز الأسطوري قُبَيل شنّ عملية عفرين 2018 في سوريا. وفي كلمة ألقاها في 22 يناير الماضي، رد أردوغان على سؤال “إلى أين نذهب؟” قائلا “نحو التفاحة الحمراء.. نعم، نحو التفاحة الحمراء”. ويعتقد المؤرخ التركي في ختام كلمته أنّ “الصورة واضحة، اليوم، طالما أن تركيا تواصل اعتبار أنّ مواجهة الظلم التاريخي بأمانة والاعتراف بارتكاب أخطاء يمثّلان تهديدا للأمن القومي، وترفض قبول ماضيها لأسباب تتعلق بالأمن القومي، فإن نتيجة ذلك هي حدوث المزيد من المشاكل الأمنية”.
مشاركة :