الحلقة المفقودة في الاقتصاد المصري

  • 11/26/2014
  • 00:00
  • 19
  • 0
  • 0
news-picture

متابعة أخبار مصر توحي وكأن المعركة الرئيسية هي مع الإرهاب، وعلى رغم خطورة الارهاب وأهمية جهود مصر في مواجهته، لكنَّ تأمّل الحالة الداخلية يضعنا أمام نتائج أزمات تركها نظام مبارك دليلاً على فشله: البطالة، العشوائيات، هبوط مستوى المعيشة، تشتت المجتمع السياسي... الخ. وظواهر كهذه إذا لم تتم معالجتها ستخلق نوعاً من أزمات تستهلك الحلول الجزئية معيدةً إنتاج نفسها باستمرار! إنها تُهدد بتحويل الأزمة إلى دوامة، وهذا أخطر من الإرهاب الذي سينتهي حتماً. لا يمكن حلّ هذه الأزمات بمشاريع جزئية متباعدة، بل بمشروع استراتيجي متكامل يساهم بإحداث إنقلاب ثقافي ينقل المصريين من ثقافة اليأس والإهمال، إلى ثقافة الأمل والتجدّد. وهو طموح مشروع ردّده كثيرون لكن من دون الوصول الى خريطة طريق اقتصادية قابلة للتنفيذ، والسبب هو تقليدية الاجتهادات المطروحة! فهناك من يعتقد بإمكانية التغيير عبر الإعلام! بتخطئة أفكار ومفاهيم نظامي مبارك والإخوان المسلمين، ثم التبشير بمفاهيم وطنية ديموقراطية تُلائم طموحات المصريين. وهذا خطأ شائع في مصر وخارجها، لسببين، الأول أن منظومة الأفكار المتخلفة المتوارثة مرتبطة بظواهر لا تزال قائمة داخل الدولة وخارجها، في السياسة والاقتصاد، وهناك فئات مستفيدة من استمرارها! والثاني أن تغيير الأفكار السائدة يحدث عندما تنشأ مشاريع ومؤسسات بديلة حقوقياً واقتصادياً تعيد الأمل لملايين المتضررين، فتتغير أفكارهم على المدى المتوسط والبعيد نتيجة تغير المواقع والأدوار والمردودات المادية، وهذا ما سيغير الخطاب الإعلامي نفسه، ويجعله أكثر حيوية ومصداقية بحكم علاقته بتحولات واقعية. إن الظواهر السيئة المتوارثة كرّست أفكاراً سياسية مضطربة، إنما أنتجها التخلف، تخلف الثقافة الحقوقية للنظام السابق وتخلف النسق الاقتصادي الذي فكّكَ الطبقة الوسطى المُنتجة وأضعف سوق العمل ما جعل مصالح رجال السلطة مرتبطة بطبقة كبار التجار والمقاولين، بل تحول كثير من هؤلاء المسؤولين إلى تجار ومقاولين أو شركاء لأولئك! لقد سادت ثقافة «المال السهل» عبر توسيع التجارة الخارجية والمقاولات حتى أصبح الفساد وتقاضي العمولات نوعاً من العبقرية مع التغافل عن الآثار السلبية الخطيرة على الاقتصاد الوطني، بحيث تراجعت وتهمّشت ثقافة التصنيع والانتاج! ومن نتائج ذلك ارتفاع معدلات البطالة وتدهور منظومة التعليم العالي والمهني. يقول مجدي قاسم رئيس هيئة الجودة في التعليم: «المشكلة تكمن في فقدان الهدف من التعليم، إذ هبط مستوى الخريجين وحلّت الوساطات محل المعدلات». إن إنقاذ الدولة من ترهلها والمجتمع من أزماته، يكمن في التحديث والتصنيع، وهذا ما ردّده كثيرون أيضاً ولكن من دون خريطة طريق مُحدَّدة! لأن تفكيك منظومة اقتصادية متخلفة وإحلال منظومة حديثة محلها، أمر معقد فعلاً لكنه ليس مستحيلاً. فالتنمية المستدامة تعني صناعة المستقبل، والمطلوب عملية تحديث مترابطة PROCESS أي مشاريع تهيئ لمشاريع أكبر منها وتتواصل معها. إن المدخل العملي والضروري هو مشروع نوعي واسع النطاق ودائم للإستثمار في التعليم المهني والتعليم العالي يرتبط بعملية التحديث ويتواصل معها. وهذا ما نقصده بالحلقة المفقودة في الاقتصاد المصري. فمشروع قناة السويس الموازية وبناء مدن جديدة ومشاريع طَموحة أخرى هي حتماً في حاجة الى ملايين العمال الفنيين والكفاءات الهندسية والصناعية، وهؤلاء مطلوبون أيضاً لمختلف الصناعات الإنشائية وهي أساس سوق العمل والتجارة الداخلية التي تحمي بدورها القوة الشرائية للعملة المحلية وتضاعف معدلات الضرائب لمصلحة الدولة، أي عكس مردودات التجارة الخارجية والاقتصاد الاستهلاكي. ولنتذكر أن اليابان وكوريا الجنوبية بنتا نهضتهما الحديثة على صناعة الإنشائيات، فهناك أكثر من سبعين صناعة إنشائية وهذه كلها تحتاج باستمرار إلى عمالة فنية وتقنيات عالية، فهي المحرّك الأول لسوق العمل. إن جذب رجال الأعمال والمستثمرين المصريين وسواهم لا يتم عبر النخوة الوطنية وحدها، إنما بتوفير شروط الإنتاج والاستثمار المُربح والمضمون، أي العمالة الفنية والخبرات الصناعية والإدارية إلى جانب البنى التحتية وشبكة الكهرباء، فمن دون ذلك لا يمكن الحديث عن «إنتاجية» ترفع مستوى المعيشة وتحيي الاقتصاد. والبداية الفعلية بيد الدولة، فهي الأقدر على الاستثمار الواسع والمُخطَّط له في التعليم المهني والتعليم العالي. المبادرة الأساسية بيد الدولة، لأن أول ما يحتاجه الاستثمار في التعليم المهني الهندسي والتصنيعي، مراكز معلومات وبحوث حديثة ومتطورة تستطيع تحديد حجم ونوعية العمالة المطلوبة الآن وفي المستقبل المنظور. ومن دون إحصاءات تقريبية، لا يمكن لمراكز القرار توجيه وتشجيع حركة الاستثمار وسوق العمل. إن تجديد وتوسيع هذه المراكز يُخفّف من وطأة البطالة المُقنعة داخل الدولة، وذلك بتأهيل آلاف الموظفين للعمل في مراكز البحوث والمعلومات. وكذلك فإن تجديد الجامعات والمعاهد المصرية لمصلحة هذا المشروع، سينقذها من الفساد وهبوط المستوى الذي عانت منه طويلاً، بتحويلها معاهدَ وجامعاتٍ للتعليم المهني الحديث هندسياً وصناعياً لتوفير المزيد من العمالة المتقدمة، ما سيرفع من قيمتها العلمية والمادية، إذ ستصبح مؤسسات مُنتجة ومساهماً فعالاً في اقتصاد السوق. وستتحول لاحقاً مؤسسات ربحية ما يخفّف كلفتها على الدولة ويشجع القطاع الخاص على الاستثمار في التعليم المهني وتطويره. فالتعليم المهني كنز مهمل وتبني هذا المشروع استراتيجياً سيجعله محرّك التقدم اقتصادياً واجتماعياً، ومُنقذاً لطالبي العمل المتزايدين سنوياً، الأمر الذي يوجب على مراكز البحوث أن تمسح حاجات أسواق العمل الخارجية، خصوصاً في العراق وبلدان الخليج، بحيث يجعل تصدير الكفاءات والخبرات من العمالة المصرية عنصراً ضرورياً في تطوير اقتصادات تلك البلدان أيضاً. * كاتب عراقي

مشاركة :