يعد إدريس البوعينين، من أبرز الحرفيين الذين برعوا في صناعة السفن بنماذجها الخشبية والمجسمات التراثية في منطقة الخليج العربي، فمنذ 40 عاماً، ومن كان في السادسة وهو يمارس صناعة نماذج السفن بأشكالها المختلفة وبتصاميم جاذبة، حتى بات رمزاً لموروث الجبيل الذي يحافظ عليه من خلال مشاركاته الفاعلة في المهرجانات والمناسبات المحلية والعالمية، حاملاً تراث آبائه وأجداده، وناقلاً صورة الجبيل بتاريخها وثقافتها، وحضوره إضافة كبيرة يعتز بها محبو التراث. لم يخفي البوعينين ارتباطه الوثيق وشغفه المتنامي في الذكريات التي رسمت ابتسامة عاشق حكايات البحر، ومغامرات الصيد، إذ كان شاهداً على مراحل مهمة وملهمة في مسيرة الجبيل، حتى بات مرجعاً لكل التساؤلات التي تدور حول موروثها، وأيقونة تختزل ماضٍ عريق وتروي مجسماته الزوايا والأماكن التي تربى بين جنباتها، وتحكي حكايات وقصص ارتبطت في أشخاص عاشوا تلك الفترة، ليورّثوا تاريخاً يستلهم الناظر إليه في منحوتات إدريس ومجسماته. «القلاف» اسمٌ عرف به إدريس بين أوساط محبيه وجمهوره المتذوق للتراث، واقتناء منتجاته الحرفية من السفن الخشبية التي تتنوع أشكالها بين السنبوك، والجالبوت، والهوري، وأشكال متعددة للسفن القديمة، تتزين بها غالبية مجالس أهالي الجبيل والمنطقة الشرقية المهتمين في الموروث، لما تشعرهم به من اعتزاز وفخر بهذا التاريخ، وترسم لهم السعادة كونها مهنة آبائهم وأجدادهم. يقول لـ«الحياة»: «ورثت صناعة السفن الخشبية عن والدي وأنا في السادسة، وكانت بدايتي محفوفة بالتحديات، لأنها حرفت آبائي وأجدادي، وبفضل دعم والدي تمكنت من اكتسابها، ولا أنسى كيف غمرتني السعادة مع أول سفينة صنعتها، والتي ما زلت احتفظ بها، كونها تمثل أهم مراحل حياتي، ولأنها بداية تعلقي بهذه المهنة التي احترفتها بكل جدارة وتمكن». وحول صناعة نماذج السفن الخشبية أضاف: «نستخدم أنواع من الخشب في صناعتها مثل السمر والأثل والتيك وكرب النخل والكينة»، مفضلاً استخدام الأدوات القديمة في صناعة نماذج السفن، على رغم وجود أدوات حديثة «لقيمتها التراثية» كما يقول، ويستغرق تنفيذها أربعة أيام بواقع أربع ساعات عمل يومياً، ويهتم الكثير من عشاق التراثيات في اقتنائها، واستخدامها ضمن ديكور منازلهم. واستعرض القلاف ارتباط أهل الخليج قديماً في البحر، وما تمثله تلك العلاقة من «توطيد وتأصيل للعلاقات الأخوية وتعزيز روح التعاون فيما بينهم»، كاشفاً عما كانت عليه شواطئ الخليج وهي تكتظ بآلاف السفن الخشبية لأغراض الصيد والغوص، لترسم تلك المرحلة بعداً إنسانياً في علاقة الإنسان في البحر، وترسخ مبدأ العطاء، ومعنى الحياة والمعيشة لدى الصيادين. وشكلت الحياة الاجتماعية والثقافية في تصور إدريس حدثاً مهماً لدى صيادي الخليج، في تكوين نمط اجتماعي فريد يسوده الألفة، والجماعية، وساهمت في بناء وصناعة ثقافة قائمة على العطاء، لتشكل تلك الحياة مصدر إلهام في أعمال البوعينين، التي تروي تفاصيلها قصصاً لحكايات الإنسان والمكان في الجبيل. ويروي الفنان التشكيلي محمد البوعينين (مهتم في موروث الجبيل) لـ«الحياة»، قصة أميركي يعمل في إحدى شركات الجبيل في الثمانينات، والذي كان يتردد على محل إدريس الصغير في شارع القطيف، والذي كان يعرض فيه أعماله لمحبي نماذج السفن والمجسمات التراثية، لينبهر في المعروضات الجميلة، ويبادر في استقطابه للعمل في إحدى الشركات العاملة بالجبيل، لتشكل انطلاقة البوعينين الفعلية، إذ أشرف على تصميم الديكورات المستوحاة من تراث الجبيل في مشاركات الهيئة الملكية بالجبيل في الجنادرية، وتصميم المجسمات والأجنحة التراثية، وشارك في مهرجانات خليجية، وانتقلت مشاركاته في عرض أعماله القيمة والملهمة إلى أميركا وإيطاليا. وأضاف محمد البوعينين: «حياته مليئة بالتحديات منذ الصغر، وكفاحه المتواصل في تحمل مسؤوليات أسرته بعد وفاة والده وهو في سن مبكرة، صقلته مبكراً ليمضي في مهنة والده، إذ كانت في البداية هذه المهنة مصدر رزق له ولأسرته، لتتحول إلى شغف وانتماء، ويصبح بعدها الواجهة التاريخية والثقافية المشرفة لموروث الجبيل، وما زال إدريس كلما تقدم عمراً كلما ازداد توهجاً، ما جعل حضوره هاماً في إبراز تراث المنطقة الشرقية، وما زال يمارس هذه الهواية وحاضراً في كل المناسبات والفعاليات، آخرها مشاركته في مهرجان الساحل الشرقي»
مشاركة :