لو جاء أمراء المناطق وتبعهم المحافظون وقدموا إلى الجهات العليا مشروع نظام قالوا في أول بند منه: نحن لا نريد أن نترأس المجالس البلدية ولا الجمعيات التنموية ولا النشاط الخيري والاجتماعي، فلدينا من الأعمال ما يكفي. فأكاد أجزم بأن أهل العقد سيقرأون الطلب ويبحثونه وقد يقتنعون بجدواه ويقبلونه ما دام الأمر في صالح الوطن والمواطن. ونظرة إلى واقع الأمر نجد أن أمير المنطقة أو المحافظ لا يتردد في قبول مقترحات المنتخبين أو المعينين سواء في الأمور البلدية أو التجارية أو الاجتماعية، وتمسكنا بذاك التقليد ما هو إلا من قناعات الماضي، حيث يعترف أكثر الناس بجهلهم في "الأمور" ويتركون قرارات مصيرية تأتي من الأعلى، بينما هم أدرى بشعاب ديرتهم. وحوّل العالم الآن إلى جعل عمداء المدن أكثر تفرغاً لأمور جوهرية، لأن الذي نراه ونسمعه الآن هو أخبار حافلة بشؤون اجتماعية وطقوس احتفالية تأخذ من وقتهم ما توفر لمعالجة قضايا تنتظر. أو إتمام مشاريع حيوية مهمة تحتاج إلى سرعة نظر. أخذت الهند بعد استقلالها عن بريطانيا في أربعينيات القرن الماضي بلامركزية القرار في كل شيء تقريبا، امور بلدية وحضرية ومرافق وصحة وتعليم ولما لم يجدوا سلبيات استمروا وزادوا من اللامركزية دون أن تتعرض الأمور السيادية للثلم. والهند استقلت عن بريطانيا بعد تأسيس المملكة بكثير. واعتقد أن الناس في بدايات حياتنا الإدارية أوجسوا الخيفة من شيء اسمه القطاع الخاص، وقالوا إن يد الدولة أقوى على منع التلاعب والسرقة، فتضخمت الجهات الحكومية وزاحمت القطاع الخاص، وحدّت من دوره، ولم تتح الفرصة لتكوين قطاع خاص منتج ومسؤول وقوي وقادر على تحمل مسؤولياته وواجباته. وعن هذا التضخم انزرعت كل مشاكل وعيوب البيروقراطية من بطء إجراء المعاملات وتنفيذ المشاريع، وتحوّل أجهزة الدولة إلى بيئة خصبة ل "كتابنا وكتابكم"..
مشاركة :